قوله تعالى : 
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون 
وفيه سبع مسائل : 
الأولى : أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون . واختلفوا من المراد بذلك ، فقيل : أحبار 
اليهود  ورهبان 
النصارى  الذين كتموا أمر 
محمد  صلى الله عليه وسلم ، وقد كتم 
اليهود  أمر الرجم . وقيل : المراد كل من كتم الحق ، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=837268من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار   . رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة   nindex.php?page=showalam&ids=59وعمرو بن العاص  أخرجه 
ابن ماجه    . ويعارضه قول 
عبد الله بن   [ ص: 173 ] مسعود    : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة   . وقال عليه السلام : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=837269حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله   . وهذا محمول على بعض العلوم ، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام ، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه ، وينزل كل إنسان منزلته ، والله تعالى أعلم . 
الثانية : هذه الآية هي التي أراد 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة  رضي الله عنه في قوله : لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا   . وبها استدل العلماء على وجوب 
تبليغ العلم الحق ، وتبيان العلم على الجملة ، دون أخذ الأجرة عليه ، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله ، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام ، وقد مضى القول في هذا . 
وتحقيق الآية هو : أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره . وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث . أما أنه لا يجوز 
تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم ، وكذلك لا يجوز 
تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية ، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ونحو ذلك . يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500034لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها   . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : 
لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير ، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله . وقد قال 
سحنون    :   
[ ص: 174 ] إن حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة   nindex.php?page=showalam&ids=59وعمرو بن العاص  إنما جاء في الشهادة . قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي    : والصحيح خلافه ; لأن في الحديث ( من سئل عن علم ) ولم يقل عن شهادة ، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله ، والله أعلم . 
الثالثة : قوله تعالى : 
من البينات والهدى يعم المنصوص عليه والمستنبط ، لشمول اسم الهدى للجميع . وفيه دليل على وجوب 
العمل بقول الواحد   ; لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقال : 
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فحكم بوقوع البيان بخبرهم . 
فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر . قلنا : هذا غلط ; لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم ، والله تعالى أعلم . 
الرابعة : لما قال : 
من البينات والهدى دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه ، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان . وقد ترك 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة  ذلك حين خاف فقال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=837271حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم   . أخرجه 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري    . قال 
أبو عبد الله    : البلعوم مجرى الطعام . قال علماؤنا : وهذا الذي لم يبثه 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة  وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى ، والله تعالى أعلم . 
الخامسة : قوله تعالى : 
من بعد ما بيناه الكناية في بيناه ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى . والكتاب : اسم جنس ، فالمراد جميع الكتب المنزلة . 
السادسة : قوله تعالى : 
أولئك يلعنهم الله أي يتبرأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم : عليكم لعنتي ، كما قال للعين : 
وإن عليك لعنتي   . وأصل اللعن في اللغة الإبعاد والطرد ، وقد تقدم .  
[ ص: 175 ] السابعة : 
قوله تعالى : ويلعنهم اللاعنون قال 
قتادة  والربيع    : المراد ب اللاعنون الملائكة والمؤمنون . قال 
ابن عطية    : وهذا واضح جار على مقتضى الكلام . وقال 
مجاهد  وعكرمة    : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم . قال 
الزجاج    : والصواب قول من قال : اللاعنون الملائكة والمؤمنون ، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا . 
قلت : قد جاء بذلك خبر رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب  رضي الله عنه قال 
nindex.php?page=hadith&LINKID=837272قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال : ( دواب الأرض   ) . أخرجه 
ابن ماجه  عن 
محمد بن الصباح  أنبأنا 
عمار بن محمد  عن 
ليث  عن 
أبي المنهال  عن 
زاذان  عن 
البراء  إسناد حسن . 
فإن قيل : كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل ؟ قيل : لأنه أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال : رأيتهم لي ساجدين ولم يقل ساجدات ، وقد قال : لم شهدتم علينا ، وقال : وتراهم ينظرون إليك ، ومثله كثير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب   nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس    : اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الثقلين : الجن والإنس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500035الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع   . وقال 
ابن مسعود   nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي    : ( هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك ، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده   
[ ص: 176 ] أهلا فتنطلق فتقع على 
اليهود  الذين كتموا ما أنزل الله تعالى ، فهو قوله : 
ويلعنهم اللاعنون فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من 
اليهود    ) .