( 
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا  ( 16 ) 
فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا  ( 17 ) 
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا  ( 18 ) 
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا  ( 19 ) 
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا  ( 20 ) 
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا  ( 21 ) ) . 
لما ذكر تعالى قصة 
زكريا ،  عليه السلام ، وأنه أوجد منه ، في حال كبره وعقم زوجته - ولدا زكيا طاهرا مباركا - عطف بذكر قصة 
مريم  في إيجاده ولدها 
عيسى ،  عليهما السلام ، منها من غير أب ، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ; ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء ، يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه ، وأنه على ما يشاء  
[ ص: 219 ] قادر ، فقال : ( 
واذكر في الكتاب مريم  ) وهي 
مريم  بنت عمران ، من سلالة 
داود ،  عليه السلام ، وكانت من بيت طاهر طيب في 
بني إسرائيل   . وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في " آل عمران " ، وأنها نذرتها محررة ، أي : تخدم مسجد 
بيت المقدس  ، وكانوا يتقربون بذلك ، ( 
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا  ) [ آل عمران : 37 ] ونشأت في 
بني إسرائيل  نشأة عظيمة ، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدءوب ، وكانت في كفالة زوج أختها - وقيل : خالتها - 
زكريا  نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم ، الذي يرجعون إليه في دينهم . ورأى لها 
زكريا  من الكرامات الهائلة ما بهره ( 
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب  ) [ آل عمران : 37 ] فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء ، كما تقدم بيانه في " آل عمران " . فلما أراد الله تعالى - وله الحكمة والحجة البالغة - أن يوجد منها عبده ورسوله 
عيسى  عليه السلام ، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام ، ( 
انتبذت من أهلها مكانا شرقيا  ) أي : اعتزلتهم وتنحت عنهم ، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس . 
قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي   : لحيض أصابها . وقيل لغير ذلك . قال 
أبو كدينة  ، عن 
قابوس بن أبي ظبيان  ، عن أبيه عن 
ابن عباس  قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه ، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك : ( 
انتبذت من أهلها مكانا شرقيا  ) قال : خرجت مريم مكانا شرقيا ، فصلوا قبل مطلع الشمس . رواه 
ابن أبي حاتم  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير   . 
وقال 
ابن جرير  أيضا : حدثنا 
إسحاق بن شاهين  ، حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=15800خالد بن عبد الله  ، عن 
داود ،  عن 
عامر ،  عن 
ابن عباس  قال : إني لأعلم خلق الله ؛ لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة ; لقول الله تعالى ( 
انتبذت من أهلها مكانا شرقيا  ) واتخذوا ميلاد 
عيسى  قبلة 
وقال 
قتادة   : ( مكانا شرقيا ) شاسعا متنحيا . 
وقال 
محمد بن إسحاق   : ذهبت بقلتها تستقي من الماء . 
وقال 
نوف البكالي   : اتخذت لها منزلا تتعبد فيه . فالله أعلم . 
وقوله : ( 
فاتخذت من دونهم حجابا  ) أي : استترت منهم وتوارت ، فأرسل الله تعالى إليها 
جبريل  عليه السلام ( 
فتمثل لها بشرا سويا  ) أي : على صورة إنسان تام كامل . 
قال 
مجاهد ،  والضحاك ،  وقتادة ،   nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج   nindex.php?page=showalam&ids=17285ووهب بن منبه  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي ،  في قوله : ( 
فأرسلنا إليها روحنا  ) يعني : 
جبريل ،  عليه السلام .  
[ ص: 220 ] 
وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى : ( 
نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين  ) [ الشعراء : 193 ، 194 ] . 
وقال 
أبو جعفر الرازي  ، عن 
الربيع بن أنس  ، عن 
أبي العالية  ، عن 
أبي بن كعب  قال : إن روح 
عيسى ،  عليه السلام ، من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان 
آدم ،  وهو الذي تمثل لها بشرا سويا ، أي : روح 
عيسى ،  فحملت الذي خاطبها ، وحل في فيها . 
وهذا في غاية الغرابة والنكارة ، وكأنه إسرائيلي . 
( 
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا  ) أي : لما تبدى لها الملك في صورة بشر ، وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب ، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها ، فقالت : ( 
إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا  ) أي : إن كنت تخاف الله . تذكير له بالله ، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل ، فخوفته أولا بالله ، عز وجل . 
قال 
ابن جرير   : حدثني 
أبو كريب  ، حدثنا 
أبو بكر  ، عن 
عاصم  قال : قال 
أبو وائل   - وذكر قصة 
مريم   - فقال : قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت : ( 
إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك  ) أي : فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا ما حصل عندها من الخوف على نفسها : لست مما تظنين ، ولكني رسول ربك ، أي : بعثني إليك ، ويقال : إنها لما ذكرت الرحمن انتفض 
جبريل  فرقا وعاد إلى هيئته وقال : " إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا " . 
هكذا قرأ 
أبو عمرو بن العلاء  أحد مشهوري القراء . وقرأ الآخرون : ( 
لأهب لك غلاما زكيا  ) وكلا القراءتين له وجه حسن ، ومعنى صحيح ، وكل تستلزم الأخرى . 
( 
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا  ) أي : فتعجبت 
مريم  من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام ؟ أي : على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ، ولست بذات زوج ، ولا يتصور مني الفجور ; ولهذا قالت : ( 
ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا  ) والبغي : هي الزانية; ولهذا جاء في الحديث : نهي عن مهر البغي . 
( 
قال كذلك قال ربك هو علي هين  ) أي : فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت : إن الله قد قال : إنه سيوجد منك غلاما ، وإن لم يكن لك بعل ولا توجد منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر ; ولهذا قال : ( ولنجعله آية للناس ) أي : دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم ، الذي نوع في خلقهم ، فخلق أباهم 
آدم  من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى ، إلا 
عيسى  فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر ، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه . 
وقوله : ( ورحمة منا ) أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبيا من الأنبياء يدعو إلى عبادة  
[ ص: 221 ] الله تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : ( 
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين  ) [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي : يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده وكهولته . 
قال 
ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا 
عبد الرحيم بن إبراهيم   - دحيم - حدثنا 
مروان ،  حدثنا 
العلاء بن الحارث الكوفي  ، عن 
مجاهد  قال : قالت 
مريم ،  عليها السلام : كنت إذا خلوت حدثني 
عيسى  وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر . 
وقوله : ( 
وكان أمرا مقضيا  ) يحتمل أن هذا من كلام 
جبريل  لمريم ،  يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته . ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله 
محمد  صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما قال تعالى : ( 
ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا  ) [ التحريم : 12 ] وقال ( 
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا  ) [ الأنبياء : 91 ] 
قال 
محمد بن إسحاق   : ( وكان أمرا مقضيا ) أي : أن الله قد عزم على هذا ، فليس منه بد ، واختار هذا أيضا 
ابن جرير  في تفسيره ، ولم يحك غيره ، والله أعلم .