صفحة جزء
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ( 96 ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ( 97 ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ( 98 ) ) .

يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وهي الأعمال التي ترضي الله - عز وجل - لمتابعتها الشريعة المحمدية - يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة ، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه . وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه .

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل ، إني أحب فلانا فأحبه . قال : فيحبه جبريل " . قال : " ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا " . قال : " فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل ، إني أبغض فلانا [ ص: 268 ] فأبغضه " . قال : " فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه " . قال : " فيبغضه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض " .

ورواه مسلم من حديث سهيل . ورواه أحمد والبخاري ، من حديث ابن جريج ، عن موسى بن عتبة عن نافع مولى ابن عمر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم بنحوه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ، حدثنا محمد بن عباد المخزومي ، عن ثوبان ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد ليلتمس مرضات الله ، فلا يزال كذلك فيقول الله - عز وجل - لجبريل : إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضيني; ألا وإن رحمتي عليه ، فيقول جبريل : " رحمة الله على فلان " ، ويقولها حملة العرش ، ويقولها من حولهم ، حتى يقولها أهل السماوات السبع ، ثم يهبط إلى الأرض "

غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن محمد بن سعد الواسطي ، عن أبي ظبية ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقة من الله - قال شريك : هي المحبة - والصيت من السماء ، فإذا أحب الله عبدا قال لجبريل ، عليه السلام : إني أحب فلانا ، فينادي جبريل : إن ربكم يمق - يعني : يحب - فلانا ، فأحبوه - وأرى شريكا قد قال : فتنزل له المحبة في الأرض - وإذا أبغض عبدا قال لجبريل : إني أبغض فلانا فأبغضه " ، قال : " فينادي جبريل : إن ربكم يبغض فلانا فأبغضوه " . قال : أرى شريكا قد قال : فيجري له البغض في الأرض " . غريب ولم يخرجوه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو داود الحفري ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد ، وهو الدراوردي - عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أحب الله عبدا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانا ، فأحبه ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض ، فذلك قول الله ، عز وجل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) [ ص: 269 ]

رواه مسلم والترمذي كلاهما عن قتيبة ، عن الدراوردي ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( سيجعل لهم الرحمن ودا ) قال : حبا .

وقال مجاهد ، عنه : ( سيجعل لهم الرحمن ودا ) قال : محبة في الناس في الدنيا .

وقال سعيد بن جبير ، عنه : يحبهم ويحببهم ، يعني : إلى خلقه المؤمنين . كما قال مجاهد أيضا ، والضحاك وغيرهم .

وقال العوفي ، عن ابن عباس أيضا : الود من المسلمين في الدنيا ، والرزق الحسن ، واللسان الصادق .

وقال قتادة : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) إي والله ، في قلوب أهل الإيمان ، ذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم .

وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يقول : ما من عبد يعمل خيرا ، أو شرا ، إلا كساه الله - عز وجل - رداء عمله .

وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن البصري ، رحمه الله قال : قال رجل : والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها ، فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي ، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج ، فكان لا يعظم ، فمكث بذلك سبعة أشهر ، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا : " انظروا إلى هذا المرائي " فأقبل على نفسه فقال : لا أراني أذكر إلا بشر ، لأجعلن عملي كله لله - عز وجل - فلم يزد على أن قلب نيته ، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله ، فكان يمر بعد بالقوم ، فيقولون : رحم الله فلانا الآن ، وتلا الحسن : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا )

وقد روى ابن جرير أثرا أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف . وهو خطأ ، فإن هذه السورة بتمامها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة ، ولم يصح سند ذلك ، والله أعلم .

وقوله : ( فإنما يسرناه ) يعني : القرآن ، ( بلسانك ) أي : يا محمد ، وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل ، ( لتبشر به المتقين ) أي : المستجيبين لله المصدقين لرسوله ، ( وتنذر به قوما لدا ) أي : عوجا عن الحق مائلين إلى الباطل .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( قوما لدا ) لا يستقيمون .

[ ص: 270 ]

وقال الثوري ، عن إسماعيل - وهو السدي - عن أبي صالح : ( وتنذر به قوما لدا ) عوجا عن الحق .

وقال الضحاك : هو الخصم ، وقال القرظي : الألد الكذاب .

وقال الحسن البصري : ( قوما لدا ) صما .

وقال غيره : صم آذان القلوب .

وقال قتادة : ( قوما لدا ) يعني قريشا .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( قوما لدا ) فجارا ، وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد .

وقال ابن زيد : الألد الظلوم ، وقرأ قول الله : ( وهو ألد الخصام ) [ البقرة : 204 ] .

وقوله : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن ) أي : من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله ، ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) أي : هل ترى منهم أحدا ، أو تسمع لهم ركزا .

قال ابن عباس ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وابن زيد : يعني صوتا .

وقال الحسن ، وقتادة : هل ترى عينا ، أو تسمع صوتا .

والركز في أصل اللغة : هو الصوت الخفي ، قال الشاعر :


فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها



التالي السابق


الخدمات العلمية