صفحة جزء
[ ص: 355 ] ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ( 78 ) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ( 79 ) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ( 80 ) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ( 81 ) )

( ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ( 82 ) ) .

قال ابن إسحاق ، عن مرة ، عن ابن مسعود : كان ذلك الحرث كرما قد نبتت عناقيده . وكذا قال شريح .

قال ابن عباس : النفش : الرعي .

وقال شريح ، والزهري ، وقتادة : النفش بالليل . زاد قتادة : والهمل بالنهار .

قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا : حدثنا المحاربي ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، عن ابن مسعود في قوله : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم ) قال : كرم قد أنبتت عناقيده ، فأفسدته . قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله! قال : وما ذاك؟ قال : تدفع الكرم إلى صاحب الغنم ، فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله : ( ففهمناها سليمان ) .

وهكذا روى العوفي ، عن ابن عباس .

وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، حدثنا خليفة ، عن ابن عباس قال : فحكم داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرعاء معهم الكلاب ، فقال لهم سليمان : كيف قضى بينكم؟

فأخبروه ، فقال : لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا! فأخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا خديج ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، عن مسروق قال : الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم ، فلم تدع فيه ورقة ولا عنقودا من عنب إلا أكلته ، فأتوا داود ، فأعطاهم رقابها ، فقال سليمان : لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم ، فيكون لهم لبنها ونفعها ، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم ، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم ، وأهل الكرم كرمهم . [ ص: 356 ]

وهكذا قال شريح ، ومرة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد وغير واحد .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا إسماعيل ، عن عامر ، قال : جاء رجلان إلى شريح ، فقال أحدهما : إن شاة هذا قطعت غزلا لي ، فقال شريح : نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برئ صاحب الشاة ، وإن كان ليلا ضمن ، ثم قرأ : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه ) الآية .

وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، من حديث الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن حرام بن محيصة ; أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا ، فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها . وقد علل هذا الحديث ، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب " الأحكام " وبالله التوفيق .

وقوله : ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن حميد; أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى ، قال ما يبكيك؟ قال يا أبا سعيد ، بلغني أن القضاة : رجل اجتهد فأخطأ ، فهو في النار ، ورجل مال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة . فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان - عليهما السلام - والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال الله تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ) فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود . ثم قال - يعني : الحسن - : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا : لا يشترون به ثمنا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى ، ولا يخشون فيه أحدا ، ثم تلا ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ] ) [ ص : 26 ] وقال : ( فلا تخشوا الناس واخشون ) [ المائدة : 44 ] ، وقال ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) [ المائدة : 44 ] .

قلت : أما الأنبياء ، عليهم السلام ، فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل . وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف ، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري ، عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، [ ص: 357 ] وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه " إياس " من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار ، والله أعلم .

وفي السنن : " القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه ، فهو في النار .

وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال : حدثنا علي بن حفص ، أخبرنا ورقاء عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما امرأتان معهما ابنان لهما ، جاء الذئب فأخذ أحد الابنين ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا . فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها ، لا تشقه ، فقضى به للصغرى " .

وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وبوب عليه النسائي في كتاب القضاء : ( باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق ) .

وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة " سليمان عليه السلام " من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - فذكر قصة مطولة ملخصها - : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل ، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها ، فشهدوا عليها عند داود ، عليه السلام ، أنها مكنت من نفسها كلبا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها . فلما كان عشية ذلك اليوم ، جلس سليمان ، واجتمع معه ولدان مثله ، فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك ، وآخر بزي المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم . فقال لأولهم : ما كان لون الكلب؟ فقال : أسود . فعزله ، واستدعى الآخر فسأله عن لونه ، فقال : أحمر . وقال الآخر : أغبش . وقال الآخر : أبيض . فأمر بقتلهم ، فحكي ذلك لداود ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة ، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب ، فاختلفوا عليه ، فأمر بقتلهم . [ ص: 358 ]

وقوله : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ) : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء ، فتجاوبه ، وترد عليه الجبال تأويبا; ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري ، وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب [ جدا ] . فوقف واستمع لقراءته ، وقال : " لقد أوتي هذا مزامير آل داود " . قال يا رسول الله ، لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا .

وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ، ومع هذا قال : لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود .

وقوله : ( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ) يعني صنعة الدروع .

قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح ، وهو أول من سردها حلقا . كما قال تعالى : ( وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد ) [ سبأ : 10 ، 11 ] أي : لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ، ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة; ولهذا قال : ( لتحصنكم من بأسكم ) يعني : في القتال ، ( فهل أنتم شاكرون ) أي : نعم الله عليكم ، لما ألهم به عبده داود ، فعلمه ذلك من أجلكم .

وقوله : ( ولسليمان الريح عاصفة ) أي : وسخرنا لسليمان الريح العاصفة ، ( تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ) يعني أرض الشام ، ( وكنا بكل شيء عالمين ) وذلك أنه كان له بساط من خشب ، يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة ، والخيل والجمال والخيام والجند ، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ، ثم تحمله فترفعه وتسير به ، وتظله الطير من الحر ، إلى حيث يشاء من الأرض ، فينزل وتوضع آلاته وخشبه ، قال الله تعالى : ( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) [ ص : 36 ] ، وقال ( غدوها شهر ورواحها شهر ) [ سبأ : 12 ] .

قال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سنان ، عن سعيد بن جبير قال : كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي ، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس ، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن ، ثم يأمر الطير فتظلهم ، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم .

وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح ، فتجتمع كالطود العظيم ، كالجبل ، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها ، ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة ، فترتفع حتى تصعد على فراشه ، ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء ، وهو مطأطئ رأسه ، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيما لله عز وجل ، وشكرا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله [ ص: 359 ] تعالى حتى تضعه الريح حيث شاء أن تضعه

وقوله : ( ومن الشياطين من يغوصون له ) أي : في الماء يستخرجون اللآلئ [ وغير ذلك . ( ويعملون عملا دون ذلك ) أي : غير ذلك ، كما قال تعالى : ( والشياطين كل بناء وغواص ] وآخرين مقرنين في الأصفاد ) . [ ص : 37 ، 38 ] .

وقوله : ( وكنا لهم حافظين ) أي : يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء ، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه ، بل هو محكم فيهم ، إن شاء أطلق ، وإن شاء حبس منهم من يشاء; ولهذا قال : ( وآخرين مقرنين في الأصفاد )

التالي السابق


الخدمات العلمية