1. الرئيسية
  2. تفسير ابن كثير
  3. تفسير سورة الحج
  4. تفسير قوله تعالى " ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم "
صفحة جزء
( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ( 28 ) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ( 29 ) ) .

قال ابن عباس : ( ليشهدوا منافع لهم ) قال : منافع الدنيا والآخرة; أما منافع الآخرة فرضوان الله ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات . وكذا قال مجاهد ، وغير واحد : إنها منافع الدنيا والآخرة ، كقوله : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) [ البقرة : 198 ] . [ ص: 415 ]

وقوله : ( ويذكروا اسم الله [ في أيام معلومات ] على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) قال شعبة [ وهشيم ] عن [ أبي بشر عن سعيد ] عن ابن عباس : الأيام المعلومات : أيام العشر ، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به . ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وإبراهيم النخعي . وهو مذهب الشافعي ، والمشهور عن أحمد بن حنبل .

وقال البخاري : حدثنا محمد بن عرعرة ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما العمل في أيام أفضل منها في هذه " قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : " ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل ، يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء " .

ورواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح . وفي الباب عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر .

قلت : وقد تقصيت هذه الطرق ، وأفردت لها جزءا على حدته ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، أنبأنا أبو عوانة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن ، من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهم من التهليل والتكبير والتحميد " وروي من وجه آخر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، بنحوه . وقال البخاري : وكان ابن عمر ، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر ، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما .

وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا : إن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله : ( والفجر وليال عشر ) [ الفجر : 1 ، 2 ] .

وقال بعض السلف : إنه المراد بقوله : ( وأتممناها بعشر ) [ الأعراف : 142 ] .

وفي سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر .

وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة ، فقال : " أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية " . [ ص: 416 ]

ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر ، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله .

وبالجملة ، فهذا العشر قد قيل : إنه أفضل أيام السنة ، كما نطق به الحديث ، ففضله كثير على عشر رمضان الأخير; لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك ، من صيام وصلاة وصدقة وغيره ، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه .

وقيل : ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر .

وتوسط آخرون فقالوا : أيام هذا أفضل ، وليالي ذاك أفضل . وبهذا يجتمع شمل الأدلة ، والله أعلم .

قول ثان في الأيام المعلومات : قال الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : الأيام المعلومات : يوم النحر وثلاثة أيام بعده . ويروى هذا عن ابن عمر ، وإبراهيم النخعي ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه .

قول ثالث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي ابن المديني ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن عجلان ، حدثني نافع; أن ابن عمر كان يقول : الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام ، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر .

هذا إسناد صحيح إليه ، وقاله السدي : وهو مذهب الإمام مالك بن أنس ، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى : ( على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) يعني به : ذكر الله عند ذبحها .

قول رابع : إنها يوم عرفة ، ويوم النحر ، ويوم آخر بعده . وهو مذهب أبي حنيفة .

وقال ابن وهب : حدثني ابن زيد بن أسلم ، عن أبيه أنه قال : المعلومات يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق .

وقوله : ( على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) يعني : الإبل والبقر والغنم ، كما فصلها تعالى في سورة الأنعام وأنها ( ثمانية أزواج ) الآية [ الأنعام : 143 ] .

وقوله ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي وهو قول غريب ، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب ، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها .

وقال عبد الله بن وهب : [ قال لي مالك : أحب أن يأكل من أضحيته; لأن الله يقول : ( فكلوا منها ) : قال ابن وهب ] وسألت الليث ، فقال لي مثل ذلك . [ ص: 417 ]

وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : ( فكلوا منها ) قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين ، فمن شاء أكل ، ومن شاء لم يأكل . وروي عن مجاهد ، وعطاء نحو ذلك .

قال هشيم ، عن حصين ، عن مجاهد في قوله ) فكلوا منها ) : هي كقوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) [ المائدة : 2 ] ، ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) [ الجمعة : 10 ] .

وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره ، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق منها بالنصف بقوله في هذه الآية : ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) ، فجزأها نصفين : نصف للمضحي ، ونصف للفقراء .

والقول الآخر : أنها تجزأ ثلاثة أجزاء : ثلث له ، وثلث يهديه ، وثلث يتصدق به; لقوله في الآية الأخرى : ( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) [ الحج : 36 ] وسيأتي الكلام عليها عندها ، إن شاء الله ، وبه الثقة .

وقوله : ( البائس الفقير ) ، قال عكرمة : هو المضطر الذي عليه البؤس ، [ والفقير ] المتعفف .

وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده . وقال قتادة : هو الزمن . وقال مقاتل بن حيان : هو الضرير .

وقوله : ( ثم ليقضوا تفثهم ) : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو وضع [ الإحرام ] من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ، ونحو ذلك . وهكذا روى عطاء ومجاهد ، عنه . وكذا قال عكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي .

وقال عكرمة ، عن ابن عباس : ( ثم ليقضوا تفثهم ) قال : التفث : المناسك .

وقوله : ( وليوفوا نذورهم ) ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : نحر ما نذر من أمر البدن .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وليوفوا نذورهم ) : نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج .

وقال إبراهيم بن ميسرة ، عن مجاهد : ( وليوفوا نذورهم ) قال : الذبائح .

وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : ( وليوفوا نذورهم ) كل نذر إلى أجل .

وقال عكرمة : ( وليوفوا نذورهم ) ، قال : [ حجهم .

وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان في قوله : ( وليوفوا نذورهم ) قال : ] نذر الحج ، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه : الطواف بالبيت [ ص: 418 ] وبين الصفا والمروة ، وعرفة ، والمزدلفة ، ورمي الجمار ، على ما أمروا به . وروي عن مالك نحو هذا .

وقوله : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) : قال مجاهد : يعني : الطواف الواجب يوم النحر .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت .

قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة ، فرماها بسبع حصيات ، ثم نحر هديه ، وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف بالبيت . وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض .

وقوله : ( بالبيت العتيق ) : فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر; لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم ، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت ، حين قصرت بهم النفقة; ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر ، وأخبر أن الحجر من البيت ، ولم يستلم الركنين الشاميين; لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة; ولهذا قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العدني ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن حجر ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه .

وقال قتادة ، عن الحسن البصري في قوله : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) [ قال ] : لأنه أول بيت وضع للناس . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق; لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح .

وقال خصيف : إنما سمي البيت العتيق; لأنه لم يظهر عليه جبار قط .

وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه . وكذا قال قتادة .

وقال حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد : لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق; لأن الله أعتقه من الجبابرة .

وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، أخبرني [ ص: 419 ] الليث ، عن عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما سمي البيت العتيق; لأنه لم يظهر عليه جبار " .

وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن سهل النجاري ، عن عبد الله بن صالح ، به . وقال : إن كان صحيحا وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري ، مرسلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية