1. الرئيسية
  2. تفسير ابن كثير
  3. تفسير سورة غافر
  4. تفسير قوله تعالى " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "
صفحة جزء
[ ص: 150 ] ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( 51 ) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ( 52 ) ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ( 53 ) هدى وذكرى لأولي الألباب ( 54 ) فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ( 55 ) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ( 56 ) )

قد أورد أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله تعالى ، عند قوله تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) سؤالا فقال : قد علم أن بعض الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء ، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا كإبراهيم ، وإما إلى السماء كعيسى ، فأين النصرة في الدنيا ؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين .

أحدهما : أن يكون الخبر خرج عاما ، والمراد به البعض ، قال : وهذا سائغ في اللغة .

الثاني : أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم ، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم ، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء ، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم ، وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح ، عليه السلام ، من اليهود ، فسلط الله عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم ، وأظهرهم الله عليهم . ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا ، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام . وهذه نصرة عظيمة ، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه : أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ، ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب " وفي الحديث الآخر : " إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " ; ولهذا أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود ، وأصحاب الرس ، وقوم لوط ، وأهل مدين ، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق . وأنجى الله من بينهم المؤمنين ، فلم يهلك منهم أحدا وعذب الكافرين ، فلم يفلت منهم أحدا .

قال السدي : لم يبعث الله رسولا قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم ، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا . قال : فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا ، وهم منصورون فيها .

[ ص: 151 ]

وهكذا نصر الله [ سبحانه ] نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على من خالفه وناوأه ، وكذبه وعاداه ، فجعل كلمته هي العليا ، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان . وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية ، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر ، فنصره عليهم وخذلهم له ، وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم ، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح [ عليه ] مكة ، فقرت عينه ببلده ، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم ، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر ، وفتح له اليمن ، ودانت له جزيرة العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا . ثم قبضه الله ، تعالى ، إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة ، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده ، فبلغوا عنه دين الله ، ودعوا عباد الله إلى الله . وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب ، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها . ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة ; ولهذا قال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) أي : يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل .

قال مجاهد : الأشهاد : الملائكة .

وقوله : ( يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ) بدل من قوله : ( ويوم يقوم الأشهاد ) .

وقرأ آخرون : " يوم " بالرفع ، كأنه فسره به . ( ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين ) ، وهم المشركون ) معذرتهم ) أي : لا يقبل منهم عذر ولا فدية ، ( ولهم اللعنة ) أي : الإبعاد والطرد من الرحمة ، ( ولهم سوء الدار ) وهي النار . قاله السدي ، بئس المنزل والمقيل .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ولهم سوء الدار ) أي : سوء العاقبة .

وقوله : ( ولقد آتينا موسى الهدى ) وهو ما بعثه الله به من الهدى والنور ، ( وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ) أي : جعلنا لهم العاقبة ، وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه ، بما صبروا على طاعة الله واتباع رسوله موسى ، عليه السلام ، وفي الكتاب الذي أورثوه - وهو التوراة - ( هدى وذكرى لأولي الألباب ) وهي : العقول الصحيحة السليمة .

وقوله : ( فاصبر ) أي : يا محمد ، ( إن وعد الله ) أي : وعدناك أنا سنعلي كلمتك ، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك ، والله لا يخلف الميعاد . وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك .

وقوله : ( واستغفر لذنبك ) هذا تهييج للأمة على الاستغفار ، ( وسبح بحمد ربك بالعشي ) أي : في أواخر النهار وأوائل الليل ، ( والإبكار ) وهي أوائل النهار وأواخر الليل .

وقوله : ( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ) أي : يدفعون الحق بالباطل ، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله ، ( إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) [ ص: 152 ] أي : ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق ، واحتقار لمن جاءهم به ، وليس ما يرومونه من إخمال الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم ، بل الحق هو المرفوع ، وقولهم وقصدهم هو الموضوع ، ( فاستعذ بالله ) أي : من حال مثل هؤلاء ، ( إنه هو السميع البصير ) أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان . هذا تفسير ابن جرير .

وقال كعب وأبو العالية : نزلت هذه الآية في اليهود : ( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) قال أبو العالية : وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم ، وأنهم يملكون به الأرض . فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - آمرا له أن يستعيذ من فتنة الدجال ، ولهذا قال : ( فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ) .

وهذا قول غريب ، وفيه تعسف بعيد ، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية