1. الرئيسية
  2. تفسير ابن كثير
  3. تفسير سورة الأحقاف
  4. تفسير قوله تعالى " والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي "
صفحة جزء
( والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ( 17 ) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ( 18 ) ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ( 19 ) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ( 20 ) ) .

[ ص: 283 ] لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة ، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال : ( والذي قال لوالديه أف لكما ) - وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف ; لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه .

وروى العوفي ، عن ابن عباس : أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق . وفي صحة هذا نظر ، والله أعلم .

وقال ابن جريج ، عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر . وهذا أيضا قاله ابن جريج .

وقال آخرون : عبد الرحمن بن أبي بكر . وقاله السدي . وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق ، فقال لوالديه : ( أف لكما ) عقهما .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، أخبرني عبد الله بن المديني قال : إني لفي المسجد حين خطب مروان ، فقال : إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا ، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية ؟ ! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ، ولا أحد من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده . فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه : أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباك ؟ قال : وسمعتهما عائشة فقالت : يا مروان ، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ؟ كذبت ، ما فيه نزلت ، ولكن نزلت في فلان بن فلان . ثم انتحب مروان ، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها ، فجعل يكلمها حتى انصرف .

وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر ، فقال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبي سفيان ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه . فدخل بيت عائشة ، رضي الله عنها ، فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذا الذي أنزل فيه : ( والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ) فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذري .

طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أمية بن خالد ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه ، قال مروان : سنة أبي بكر وعمر . فقال عبد الرحمن بن أبي [ ص: 284 ] بكر : سنة هرقل وقيصر . فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : ( والذي قال لوالديه أف لكما ) الآية ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان ! والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، فمروان فضض من لعنة الله .

وقوله : ( أتعدانني أن أخرج ) أي : [ أن ] أبعث ( وقد خلت القرون من قبلي ) أن قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر ، ( وهما يستغيثان الله ) أي : يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما : ( ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ) قال الله [ تعالى ] ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ) أي : دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة .

وقوله : ( أولئك ) بعد قوله : ( والذي قال ) دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك .

وقال الحسن وقتادة : هو الكافر الفاجر العاق لوالديه ، المكذب بالبعث .

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة سهل بن داود ، من طريق هشام بن عمار : حدثنا حماد بن عبد الرحمن ، حدثنا خالد بن الزبرقان الحلبي ، عن سليمان بن حبيب المحاربي ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربعة لعنهم الله من فوق عرشه ، وأمنت عليهم الملائكة : مضل المساكين - قال خالد : الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول : هلم أعطيك ، فإذا جاءه قال : ليس معي شيء - والذي يقول للمكفوف : اتق الدابة ، وليس بين يديه شيء . والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها ، والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا " . غريب جدا .

وقوله : ( ولكل درجات مما عملوا ) أي : لكل عذاب بحسب عمله ، ( وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ) أي : لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها .

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : درجات النار تذهب سفالا ودرجات الجنة تذهب علوا .

وقوله : ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ) أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا . وقد تورع [ أمير المؤمنين ] عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن كثير من طيبات المآكل والمشارب ، وتنزه عنها ، ويقول : [ إني ] أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقرعهم : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها )

[ ص: 285 ]

وقال أبو مجلز : ليتفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا ، فيقال لهم : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا )

وقوله : ( فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) فجوزوا من جنس عملهم ، فكما نعموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق ، وتعاطوا الفسق والمعاصي ، جازاهم الله بعذاب الهون ، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة ، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة ، أجارنا الله من ذلك كله .

التالي السابق


الخدمات العلمية