1. الرئيسية
  2. تفسير ابن كثير
  3. تفسير سورة الحشر
  4. تفسير قوله تعالى " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله "
صفحة جزء
( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ( 21 ) هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ( 22 ) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ( 23 ) هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( 24 ) )

يقول تعالى معظما لأمر القرآن ، ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب ، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) أي : فإن كان الجبل في غلظته وقساوته ، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه ، لخشع وتصدع من خوف الله ، عز وجل ، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع ، وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ؟ ولهذا قال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .

قال العوفي : عن ابن عباس في قوله : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا ) إلى آخرها ، يقول : لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه ، لتصدع وخشع من ثقله ، ومن خشية الله . فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع . ثم [ ص: 79 ] قال : كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون . وكذا قال قتادة ، وابن جرير .

وقد ثبت في الحديث المتواتر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عمل له المنبر ، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع ، وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكن ، لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده . ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده : " فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجذع " . وهكذا هذه الآية الكريمة ، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته ، لخشعت وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم ؟ وقد قال تعالى : ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) الآية [ الرعد : 31 ] . وقد تقدم أن معنى ذلك : أي لكان هذا القرآن . وقال تعالى : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) [ البقرة : 74 ] .

ثم قال تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ) أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره ، ولا إله للوجود سواه ، وكل ما يعبد من دونه فباطل ، وأنه عالم الغيب والشهادة ، أي : يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء من جليل وحقير ، وصغير وكبير ، حتى الذر في الظلمات .

وقوله : ( هو الرحمن الرحيم ) قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير ، بما أغنى عن إعادته ها هنا . والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، وقد قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) [ الأعراف : 156 ] ، وقال ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ الأنعام : 54 ] ، وقال ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) [ يونس : 58 ] .

وقوله ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك ) أي : المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة .

وقوله : ( القدوس ) قال وهب بن منبه : أي الطاهر . وقال مجاهد ، وقتادة : أي المبارك : وقال ابن جريج : تقدسه الملائكة الكرام .

[ ص: 80 ]

( السلام ) أي : من جميع العيوب والنقائص ; بكماله في ذاته وصفاته وأفعاله .

وقوله : ( المؤمن ) قال الضحاك عن ابن عباس : أي أمن خلقه من أن يظلمهم . وقال قتادة : أمن بقوله : إنه حق . وقال ابن زيد : صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به .

وقوله : ( المهيمن ) قال ابن عباس وغير واحد : أي الشاهد على خلقه بأعمالهم ، بمعنى : هو رقيب عليهم ، كقوله : ( والله على كل شيء شهيد ) [ البروج : 9 ] ، وقوله ( ثم الله شهيد على ما يفعلون ) [ يونس : 46 ] .

وقوله : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) الآية [ الرعد : 33 ] .

وقوله : ( العزيز ) أي : الذي قد عز كل شيء فقهره ، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته ، وعظمته ، وجبروته ، وكبريائه ; ولهذا قال : ( الجبار المتكبر ) أي : الذي لا تليق الجبرية إلا له ، ولا التكبر إلا لعظمته ، كما تقدم في الصحيح : " العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدا منهما عذبته " .

وقال قتادة : الجبار : الذي جبر خلقه على ما يشاء .

وقال ابن جرير : الجبار : المصلح أمور خلقه ، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم .

وقال قتادة : المتكبر : يعني عن كل سوء .

ثم قال : ( سبحان الله عما يشركون ) .

وقوله : ( هو الله الخالق البارئ المصور ) الخلق : التقدير ، والبراء : هو الفري ، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود ، وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل . قال الشاعر يمدح آخر


ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري



أي : أنت تنفذ ما خلقت ، أي : قدرت بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد . فالخلق : التقدير . والفري : التنفيذ . ومنه يقال : قدر الجلاد ثم فرى ، أي : قطع على ما قدره بحسب ما يريده .

وقوله تعالى : ( الخالق البارئ المصور ) أي : الذي إذا أراد شيئا قال له : كن ، فيكون على الصفة التي يريد ، والصورة التي يختار . كقوله : ( في أي صورة ما شاء ركبك ) [ الانفطار : 8 ] ولهذا قال : ( المصور ) أي : الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها .

[ ص: 81 ]

وقوله : ( له الأسماء الحسنى ) قد تقدم الكلام على ذلك في " سورة الأعراف " ، وذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر " . وتقدم سياق الترمذي ، وابن ماجه له ، عن أبي هريرة أيضا ، وزاد بعد قوله : " وهو وتر يحب الوتر " - واللفظ للترمذي - : " هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور " .

وسياق ابن ماجه بزيادة ، ونقصان ، وتقديم ، وتأخير ، وقد قدمنا ذلك مبسوطا مطولا بطرقه ، وألفاظه بما أغنى عن إعادته هنا .

وقوله : ( يسبح له ما في السماوات والأرض ) كقوله ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) [ الإسراء : 44 ] .

وقوله : ( وهو العزيز ) أي : فلا يرام جنابه ) الحكيم ) في شرعه وقدره . وقد قال الإمام أحمد :

حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا خالد - يعني : ابن طهمان أبو العلاء الخفاف - حدثنا نافع بن أبي نافع ، عن معقل بن يسار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " .

ورواه الترمذي ، عن محمود بن غيلان ، عن أبي أحمد الزبيري به . ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية