[ ص: 225 ]  ( 
إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  ( 112 ) 
قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين  ( 113 ) ) 
( 
قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين  ( 114 ) 
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين  ( 115 ) ) 
هذه قصة المائدة ، وإليها تنسب السورة فيقال : " سورة المائدة " . وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله 
عيسى  ، - عليه السلام - ، لما أجاب دعاءه بنزولها ، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة . 
وقد ذكر بعض الأئمة أن قصة المائدة ليست مذكورة في الإنجيل ، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين ، فالله أعلم . 
فقوله تعالى : ( 
إذ قال الحواريون  ) وهم أتباع 
عيسى - عليه السلام -   : ( 
يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك  ) هذه قراءة كثيرين ، وقرأ آخرون : " هل تستطيع ربك " أي : هل تستطيع أن تسأل ربك ( 
أن ينزل علينا مائدة من السماء  ) . 
والمائدة هي : الخوان عليه طعام . وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوا أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ، ويتقوون بها على العبادة . 
قال : ( 
اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  ) أي : فأجابهم 
المسيح ، - عليه السلام -  ، قائلا لهم : اتقوا الله ، ولا تسألوا هذا ، فعساه أن يكون فتنة لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين . 
( 
قالوا نريد أن نأكل منها  ) أي : نحن محتاجون إلى الأكل منها ( 
وتطمئن قلوبنا  ) إذا شاهدنا نزولها رزقا لنا من السماء ( 
ونعلم أن قد صدقتنا  ) أي : ونزداد إيمانا بك وعلما برسالتك ( 
ونكون عليها من الشاهدين  ) أي : ونشهد أنها آية من عند الله ، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به . 
( 
قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا  ) قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي   : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري   : يعني يوما نصلي فيه ، وقال 
قتادة   : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم ، وعن 
سلمان الفارسي   : عظة لنا ولمن بعدنا . وقيل : كافية لأولنا وآخرنا . 
( وآية منك ) أي : دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء ، وعلى إجابتك دعوتي ، فيصدقوني فيما أبلغه عنك ) وارزقنا ) أي : من عندك رزقا هنيئا بلا كلفة ولا تعب ( 
وأنت خير الرازقين . قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم  ) أي : فمن كذب بها من أمتك يا 
عيسى  وعاندها ( 
فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين  ) أي : من عالمي زمانكم ، كقوله : ( 
ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب  ) [ غافر : 46 ] ، وكقوله : ( 
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار  ) [ النساء : 145 ] .  
[ ص: 226 ] 
وقد روى 
ابن جرير  ، من طريق 
عوف الأعرابي  ، عن 
أبي المغيرة القواس  ، عن 
عبد الله بن عمرو  قال : إن 
أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون . 
ذكر أخبار رويت عن السلف في 
نزول المائدة على الحواريين  : 
قال 
أبو جعفر بن جرير  ، حدثنا 
القاسم  ، حدثنا 
الحسين  ، حدثني 
حجاج  ، عن 
ليث  ، عن 
عقيل  عن 
ابن عباس   : أنه كان يحدث عن 
عيسى ابن مريم  أنه قال 
لبني إسرائيل   : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له . ففعلوا ، ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ، ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما ، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال 
عيسى   : ( 
اتقوا الله إن كنتم مؤمنين . قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين . قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين . قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين  ) قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء ، عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم  . 
كذا رواه 
ابن جرير  ورواه 
ابن أبي حاتم  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى  ، عن 
ابن وهب  ، عن 
الليث  ، عن 
عقيل  ، عن 
ابن شهاب  ، قال : كان 
ابن عباس  يحدث ، فذكر نحوه . 
وقال 
ابن أبي حاتم  أيضا : حدثنا 
سعد بن عبد الله بن عبد الحكم  ، حدثنا 
أبو زرعة وهب الله بن راشد  ، حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=16581عقيل بن خالد  ، أن 
ابن شهاب  أخبره عن 
ابن عباس   ; أن 
عيسى ابن مريم  قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ، قال : فنزلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أحوات ، وسبعة أرغفة ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم . 
وقال 
ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا 
الحسن بن قزعة الباهلي  ، حدثنا 
سفيان بن حبيب  ، حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة  ، عن 
قتادة  ، عن 
خلاس  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " نزلت المائدة من السماء ، عليها خبز ولحم ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا ، فمسخوا قردة وخنازير " 
وكذا رواه 
ابن جرير  ، عن 
الحسن بن قزعة  ثم رواه 
ابن جرير  ، عن 
ابن بشار  ، عن 
ابن أبي  [ ص: 227 ] عدي  ، عن 
سعيد  ، عن 
قتادة  ، عن 
خلاس  ، عن 
عمار  ، قال : نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة ، فأمروا ألا يخونوا ولا يخبئوا ولا يدخروا . قال : فخان القوم وخبئوا وادخروا ، فمسخهم الله قردة وخنازير . 
وقال 
ابن جرير   : حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى  ، حدثنا 
عبد الأعلى  ، حدثنا 
داود  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16052سماك بن حرب  ، عن رجل من 
بني عجل  ، قال : صليت إلى جنب 
 nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر  ، فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة 
بني إسرائيل؟  قال : قلت : لا قال : إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد ، قال : فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخبؤوا ، أو تخونوا ، أو ترفعوا ، فإن فعلتم فإني معذبكم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، قال : فما مضى يومهم حتى خبؤوا ورفعوا وخانوا ، فعذبوا عذابا لم يعذبه أحد من العالمين . وإنكم - معشر العرب - كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء ، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم ، تعرفون حسبه ونسبه ، وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم ، ونهاكم أن تكتنزوا الذهب والفضة . وأيم الله ، لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذابا أليما . 
وقال : حدثنا 
القاسم  ، حدثنا 
حسين  ، حدثني 
حجاج  ، عن 
أبي معشر  ، عن 
إسحاق بن عبد الله  ، أن المائدة نزلت على 
عيسى ابن مريم  ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، يأكلون منها ما شاؤوا . قال : فسرق بعضهم منها وقال : " لعلها لا تنزل غدا " . فرفعت . 
وقال 
العوفي  ، عن 
ابن عباس   : نزلت على 
عيسى ابن مريم  والحواريين  ، خوان عليه خبز وسمك ، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا . وقال 
خصيف  ، عن 
عكرمة  ومقسم  ، عن 
ابن عباس   : كانت المائدة سمكة وأرغفة . وقال 
مجاهد   : هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا . وقال 
أبو عبد الرحمن السلمي   : نزلت المائدة خبزا وسمكا . وقال 
عطية العوفي   : المائدة سمك فيه طعم كل شيء . 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه   : أنزلها من السماء على بني إسرائيل ، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة ، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى ، فكان يقعد عليها أربعة آلاف ، فإذا أكلوا أبدل الله مكان ذلك لمثلهم . فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل . 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه   : نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات ، وحشا الله بين أضعافهن البركة ، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون ، حتى أكل جميعهم وأفضلوا . 
وقال 
الأعمش  ، عن 
مسلم  ، عن 
سعيد بن جبير   : أنزل عليها كل شيء إلا اللحم . 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري  ، عن 
عطاء بن السائب  ، عن 
زاذان  وميسرة  وجرير  ، عن 
عطاء  ، عن 
ميسرة   [ ص: 228 ] قال : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم . 
وعن 
عكرمة   : كان خبز المائدة من الأرز . رواه 
ابن أبي حاتم   . 
وقال 
ابن أبي حاتم   : أخبرنا 
جعفر بن علي  فيما كتب إلي ، حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=12427إسماعيل بن أبي أويس  ، حدثني 
أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مرداس العبدري - مولى بني عبد الدار   - عن 
إبراهيم بن عمر  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12081أبي عثمان النهدي  ، عن 
سلمان الخير   ; أنه قال : لما سأل 
الحواريون  عيسى ابن مريم  المائدة ، كره ذلك جدا وقال : اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء ، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم ، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها . فأبوا إلا أن يأتيهم بها ، فلذلك قالوا : ( 
نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا  ) الآية . 
فلما رأى 
عيسى  أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها ، قام فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود ، وجبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا ، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وغض بصره ، وطأطأ رأسه خشوعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه ، فلما رأى ذلك دعا الله فقال : ( 
اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء  ) فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم 
وعيسى  يبكي خوفا للشروط التي اتخذها الله عليهم - فيها : أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين - وهو يدعو الله من مكانه ويقول : اللهم اجعلها رحمة ، إلهي لا تجعلها عذابا ، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني ، إلهي اجعلنا لك شكارين ، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا وجزاء ، إلهي اجعلها سلامة وعافية ، ولا تجعلها فتنة ومثلة . 
فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي 
عيسى  والحواريين  وأصحابه حوله ، يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ، وخر 
عيسى  والحواريون  لله سجدا شكرا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة ، وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرا عجيبا أورثهم كمدا وغما ، ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل 
عيسى   . والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليها منديل مغطي . قال 
عيسى   : من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة ، وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا بلاء عند ربه؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر باسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا . فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته ، أنت أولانا بذلك ، وأحقنا  
[ ص: 229 ] بالكشف عنها . فقام 
عيسى  ، - عليه السلام - ، واستأنف وضوءا جديدا ، ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات ، ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا . ثم انصرف فجلس إلى السفرة وتناول المنديل ، وقال : " باسم الله خير الرازقين " ، وكشف عن السفرة ، فإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية ، ليس عليها بواسير ، وليس في جوفها شوك ، يسيل السمن منها سيلا قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر ثمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات . 
فقال 
شمعون  رأس 
الحواريين  لعيسى   : يا روح الله وكلمته ، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات ، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية! فقال 
شمعون   : وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصديقة . فقال 
عيسى  ، - عليه السلام - : ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية القاهرة ، فقال له : كن . فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر . 
فقالوا : يا روح الله وكلمته ، إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية . فقال 
عيسى   : سبحان الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟ ثم أقبل 
عيسى  ، - عليه السلام - ، على السمكة ، فقال : يا سمكة ، عودي بإذن الله حية كما كنت . فأحياها الله بقدرته ، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية ، تلمظ كما يتلمظ الأسد ، تدور عيناها لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها . ففزع القوم منها وانحازوا . فلما رأى 
عيسى  ذلك منهم قال : ما لكم تسألون الآية ، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة ، عودي بإذن الله كما كنت . فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول . 
فقالوا 
لعيسى   : كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ، ثم نحن بعد فقال 
عيسى   : معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها . فلما رأى 
الحواريون  وأصحابهم امتناع نبيهم منها ، خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة ، فتحاموها . فلما رأى ذلك 
عيسى  دعا لها الفقراء والزمنى ، وقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم ، فيكون مهنؤها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم باسم الله ، واختموه بحمد الله ، ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ، ونظر 
عيسى  والحواريون  فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء ، لم ينتقص منها شيء ، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون  
[ ص: 230 ] فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرئ كل زمن أكل منها ، فلم يزالوا أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا . 
وندم 
الحواريون  وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة ، سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات ، قال : فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضا : الأغنياء والفقراء ، والصغار والكبار ، والأصحاء والمرضى ، يركب بعضهم بعضا . فلما رأى ذلك جعلها نوائب ، تنزل يوما ولا تنزل يوما . فلبثوا في ذلك أربعين يوما ، تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها ، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم . بإذن الله إلى جو السماء ، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم . 
قال : فأوحى الله إلى نبيه 
عيسى  ، - عليه السلام - ، أن اجعل رزقي المائدة ، لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس ، وغمطوا ذلك ، حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين حتى قالوا لعيسى : أخبرنا عن المائدة ، ونزولها من السماء أحق ، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير؟ فقال 
عيسى  ، - عليه السلام - : هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا ، وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها ، وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب ، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله . 
وأوحى الله إلى 
عيسى   : إني آخذ المكذبين بشرطي ، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . قال فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين ، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير ، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات . 
هذا أثر غريب جدا . قطعه 
ابن أبي حاتم  في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم . 
وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل ، أيام 
عيسى ابن مريم  ، إجابة من الله لدعوته ، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم : ( 
قال الله إني منزلها عليكم  ) الآية .  
[ ص: 231 ] 
وقد قال قائلون : إنها لم تنزل . فروى 
ليث بن أبي سليم  ، عن 
مجاهد  في قوله : ( 
أنزل علينا مائدة من السماء  ) قال : هو مثل ضرب ، ولم ينزل شيء . 
رواه 
ابن أبي حاتم   nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير   . ثم قال 
ابن جرير   : حدثني 
الحارث  ، حدثنا 
القاسم - هو ابن سلام   - حدثنا 
حجاج  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج  ، عن 
مجاهد  قال : مائدة عليها طعام ، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تنزل عليهم . 
وقال أيضا : حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=12166ابن المثنى  ، حدثنا 
محمد بن جعفر  ، حدثنا 
شعبة  ، عن 
منصور بن زاذان  ، عن 
الحسن   ; أنه قال في المائدة : لم تنزل . 
وحدثنا 
بشر  ، حدثنا 
يزيد  ، حدثنا 
سعيد  ، عن 
قتادة  قال : كان 
الحسن  يقول : لما قيل لهم : ( 
فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين  ) قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل . 
وهذه أسانيد صحيحة إلى 
مجاهد  والحسن  ، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله ، وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا ، ولا أقل من الآحاد ، والله أعلم . ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت ، وهو الذي اختاره 
ابن جرير  ، قال : لأنه تعالى أخبر بنزولها بقوله تعالى : ( 
إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين  ) قال : ووعد الله ووعيده حق وصدق . 
وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب ، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم . وقد ذكر أهل التاريخ أن 
موسى بن نصير  نائب 
بني أمية  في فتوح 
بلاد المغرب  ، وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر ، فبعث بها إلى 
أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك  ، باني جامع 
دمشق  ، فمات وهي في الطريق ، فحملت إلى أخيه 
سليمان بن عبد الملك  الخليفة بعده ، فرآها الناس وتعجبوا منها كثيرا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة . ويقال إن هذه المائدة كانت 
لسليمان بن داود  ، عليهما السلام ، فالله أعلم . 
وقد قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد   : حدثنا 
عبد الرحمن  ، حدثنا 
سفيان  ، عن 
سلمة بن كهيل  ، عن 
عمران بن الحكم  ، عن 
ابن عباس  قال : قالت 
قريش  للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك قال : " وتفعلون؟ " قالوا : نعم . قال : فدعا ، فأتاه 
جبريل  فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة . قال : " بل باب التوبة والرحمة " .  
[ ص: 232 ] 
ثم رواه 
أحمد  وابن مردويه   nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم  في مستدركه ، من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري  ، به .