( 
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون  ( 28 ) 
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون  ( 29 ) 
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون  ( 30 ) ) . 
قال 
مجاهد   : كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ، يقولون : نطوف كما ولدتنا أمهاتنا . فتضع المرأة على فرجها النسعة ، أو الشيء وتقول : 
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله 
فأنزل الله تعالى ( 
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها  ) الآية . 
قلت : كانت العرب - ما عدا 
قريشا   - لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت 
قريش   - وهم 
الحمس   - يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، فمن لم يجد ثوبا جديدا ولا أعاره أحمسي ثوبا ، طاف عريانا . وربما كانت امرأة فتطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئا يستره بعض الشيء وتقول : 
اليوم يبدو بعضه أو كله     وما بدا منه فلا أحله 
 . 
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل ، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك ، فقال : ( 
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها  ) فقال تعالى ردا عليهم : ( قل ) أي : قل يا 
محمد  لمن ادعى ذلك : ( 
إن الله لا يأمر بالفحشاء  ) أي : هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة ، والله لا يأمر بمثل ذلك ( 
أتقولون على الله ما لا تعلمون  ) أي : أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته . 
وقوله : ( 
قل أمر ربي بالقسط  ) أي : بالعدل والاستقامة ، ( 
وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين  )  
[ ص: 403 ] أي : أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها ، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله تعالى وما جاءوا به عنه من الشرائع ، وبالإخلاص له في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين : أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، وأن يكون خالصا من الشرك . 
وقوله تعالى : ( 
كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة  ) - اختلف في معنى قوله تعالى ( 
كما بدأكم تعودون  ) فقال 
ابن أبي نجيح  ، عن 
مجاهد   : ( 
كما بدأكم تعودون  ) يحييكم بعد موتكم . 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري   : كما بدأكم في الدنيا ، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء  . 
وقال 
قتادة   : ( 
كما بدأكم تعودون  ) قال : بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئا ، ثم ذهبوا ، ثم يعيدهم . 
وقال 
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم   : كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرا . 
واختار هذا القول 
أبو جعفر بن جرير  ، وأيده بما رواه من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري   nindex.php?page=showalam&ids=16102وشعبة بن الحجاج  ، كلاهما عن 
المغيرة بن النعمان  ، عن 
سعيد بن جبير  ، عن 
ابن عباس  قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821345قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : " يا أيها الناس ، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين  )  [ الأنبياء : 104 ] . 
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، من حديث 
شعبة ،  وفي حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري   - أيضا - من حديث 
الثوري  به . 
وقال 
وقاء بن إياس أبو يزيد  ، عن 
مجاهد   : ( 
كما بدأكم تعودون  ) قال : يبعث المسلم مسلما ، والكافر كافرا . 
وقال 
أبو العالية   : ( 
كما بدأكم تعودون  ) ردوا إلى علمه فيهم . 
وقال 
سعيد بن جبير   : ( 
كما بدأكم تعودون  ) كما كتب عليكم تكونون - وفي رواية : كما كنتم تكونون عليه تكونون . 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي  في قوله تعالى : ( 
كما بدأكم تعودون  ) من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه ، وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه . ومن ابتدئ خلقه على السعادة ، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه ، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء ، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء ، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه .  
[ ص: 404 ] وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي   : ( 
كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة  ) يقول : ( 
كما بدأكم تعودون  ) كما خلقناكم ، فريق مهتدون وفريق ضلال ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم . 
وقال 
علي بن أبي طلحة  ، عن 
ابن عباس  قوله : ( 
كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة  ) قال : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ، كما قال تعالى ( 
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن  ) [ التغابن : 2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمنا وكافرا  . 
قلت : ويتأيد هذا القول بحديث 
ابن مسعود  في صحيح 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري   " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821346فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخل الجنة  " 
وقال 
أبو القاسم البغوي   : حدثنا 
علي بن الجعد  ، حدثنا 
أبو غسان  ، عن 
أبي حازم  ، عن 
سهل بن سعد  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821347إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار . وإنه ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بالخواتيم  " 
هذا قطعة من حديث رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  من حديث 
أبي غسان محمد بن مطرف المدني  ، في قصة " 
قزمان   " يوم 
أحد   . 
وقال 
ابن جرير   : حدثنا 
ابن بشار  ، حدثنا 
عبد الرحمن  ، حدثنا 
سفيان ،  عن 
الأعمش ،  عن 
أبي سفيان  ، عن 
جابر ،  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821348تبعث كل نفس على ما كانت عليه  " 
وهذا الحديث رواه 
مسلم   nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه  من غير وجه ، عن 
الأعمش ،  به . ولفظه : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821349يبعث كل عبد على ما مات عليه  " 
قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول - إن كان هو المراد من الآية - وبين قوله تعالى : ( 
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها  ) [ الروم : 30 ] وما جاء في الصحيحين ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة  ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821350كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه  " وفي صحيح 
مسلم ،  عن 
عياض بن حمار  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821351يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم  " الحديث . ووجه  
[ ص: 405 ] الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر ، في ثاني الحال ، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده ، والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق ، وجعله في غرائزهم وفطرهم ، ومع هذا قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيدا : ( 
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن  ) [ التغابن : 2 ] وفي الحديث : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821352كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها  " وقدر الله نافذ في بريته ، فإنه هو ) الذي قدر فهدى ) [ الأعلى : 3 ] و ( 
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى  ) [ طه : 50 ] وفي الصحيحين : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=821353فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة  " ; ولهذا قال تعالى : ( 
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة  ) ثم علل ذلك فقال : ( 
إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون  ) . 
قال 
ابن جرير   : وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها ، فيركبها عنادا منه لربه فيها; لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد ، وفريق الهدى - فرق . وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية الكريمة .