صفحة جزء
( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( 61 ) )

( وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( 62 ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( 63 ) )

يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم ، ( وإن جنحوا ) أي : مالوا ( للسلم ) أي المسالمة والمصالحة والمهادنة ، ( فاجنح لها ) أي : فمل إليها ، واقبل منهم ذلك ؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين ؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا فضيل بن سليمان - يعني النميري - حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن إياس بن عمرو الأسلمي ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه سيكون بعدي اختلاف - أو : أمر - فإن استطعت أن يكون السلم ، فافعل .

وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة .

[ ص: 84 ] وهذا فيه نظر ؛ لأن السياق كله في وقعة بدر ، وذكرها مكتنف لهذا كله .

وقول ابن عباس ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في " براءة " : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية [ التوبة : 29 ] فيه نظر أيضا ؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفا ، فإنه تجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ، والله أعلم .

وقوله : ( وتوكل على الله ) أي : صالحهم وتوكل على الله ، فإن الله كافيك وناصرك ، ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ، ( فإن حسبك الله ) أي : كافيك وحده .

ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار ؛ فقال : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم ) أي : جمعها على الإيمان بك ، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) أي : لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) [ آل عمران : 103 ] .

وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم : يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن .

ولهذا قال تعالى : ( ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) أي : عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه .

قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن القنديلي الإستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ؛ يقول الله تعالى : ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) وذلك موجود في الشعر :

إذا مت ذو القربى إليك برحمه فغشك واستغنى فليس بذي رحم     ولكن ذا القربى الذي إن دعوته
أجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي

[ ص: 85 ] قال : ومن ذلك قول القائل :

ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم     وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعا     وإذا المودة أقرب الأسباب

قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس ، أو هو من قول من دونه من الرواة ؟ .

وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - سمعته يقول : ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) الآية ، قال : هم المتحابون في الله ، وفي رواية : نزلت في المتحابين في الله .

رواه النسائي والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ : ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم )

رواه الحاكم أيضا .

وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد - ولقيته فأخذ بيدي فقال : إذا تراءى المتحابان في الله ، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ، وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر . قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير ! فقال : لا تقل ذلك ؛ فإن الله تعالى يقول : ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) ! . قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان عن إبراهيم الخوزي عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال : قلت لمجاهد : بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد : أما سمعته يقول : ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني .

وكذا روى طلحة بن مصرف ، عن مجاهد .

وقال ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : كنا نحدث أن أول ما يرفع من الناس - [ أو قال : عن الناس ] - الألفة .

وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني - رحمه الله - : حدثنا الحسين بن إسحاق [ ص: 86 ] التستري ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان ، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ، كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحار .

التالي السابق


الخدمات العلمية