صفحة جزء
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( 18 ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ( 19 ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( 20 ) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 21 ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( 22 ) )

يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الخلائق; من الملائكة ، والرسل ، والأنبياء ، وسائر البشر والجان ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا بهز وعفان قالا أخبرنا همام ، حدثنا قتادة ، عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل قال : كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله عز وجل يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وإني أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول : ( الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) [ ص: 314 ]

أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين ، من حديث قتادة به .

وقوله : ( الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ) أي يردون الناس عن اتباع الحق وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز وجل ويجنبونهم الجنة ، ( ويبغونها عوجا ) أي : ويريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة ، ( وهم بالآخرة هم كافرون ) أي : جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها .

( أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء ) أي : بل كانوا تحت قهره وغلبته ، وفي قبضته وسلطانه ، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة ، ولكن ( يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) [ إبراهيم : 42 ] ، وفي الصحيحين : " إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته " ; ولهذا قال تعالى : ( يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) أي : يضاعف عليهم العذاب ، وذلك لأن الله تعالى جعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم [ من شيء ] ، بل كانوا صما عن سماع الحق ، عميا عن اتباعه ، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار : ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) [ الملك : 10 ] ، وقال تعالى : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ) [ النحل : 88 ] ; ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه ، وعلى كل نهي ارتكبوه ; ولهذا كان أصح الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها بالنسبة إلى الدار الآخرة .

وقوله : ( أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي : خسروا أنفسهم لأنهم دخلوا نارا حامية ، فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها طرفة عين ، كما قال تعالى : ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) [ الإسراء : 97 ] .

و ) ضل عنهم ) أي : ذهب عنهم ( ما كانوا يفترون ) من دون الله من الأنداد والأصنام ، فلم تجد عنهم شيئا ، بل ضرتهم كل الضرر ، كما قال تعالى : ( وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [ الأحقاف : 6 ] ، وقال تعالى : ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ) [ مريم : 81 ، 82 ] ، وقال الخليل لقومه : ( إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) [ العنكبوت : 25 ] ، وقال تعالى : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) [ البقرة : 166 ] ; [ ص: 315 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم; ولهذا قال : ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) يخبر تعالى عن حالهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الآخرة; لأنهم استبدلوا بالدركات عن الدرجات ، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن ، وعن شرب الرحيق المختوم ، بسموم وحميم ، وظل من يحموم ، وعن الحور العين بطعام من غسلين ، وعن القصور العالية بالهاوية ، وعن قرب الرحمن ، ورؤيته بغضب الديان وعقوبته ، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية