صفحة جزء
[ وقوله ] ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( 21 ) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ( 22 ) وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ( 23 ) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ( 24 ) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ( 25 ) )

يخبر - تعالى - أنه مالك كل شيء ، وأن كل شيء سهل عليه ، يسير لديه ، وأن عنده خزائن [ ص: 530 ] الأشياء من جميع الصنوف ، ( وما ننزله إلا بقدر معلوم ) كما يشاء وكما يريد ، ولما له في ذلك من الحكمة البالغة ، والرحمة بعباده ، لا على [ وجه ] الوجوب ، بل هو كتب على نفسه الرحمة .

قال يزيد بن أبي زياد ، عن أبي جحيفة ، عن عبد الله : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يقسمه حيث شاء عاما هاهنا ، وعاما هاهنا . ثم قرأ : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) رواه ابن جرير

وقال أيضا : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسن حدثنا هشيم ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الحكم بن عتيبة في قوله : ( وما ننزله إلا بقدر معلوم ) قال : ما عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل ، ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون وربما كان في البحر . قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم ، يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت

وقال البزار : حدثنا داود - وهو ابن بكر التستري - حدثنا حبان بن أغلب بن تميم ، حدثني أبي ، عن هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خزائن الله الكلام ، فإذا أراد شيئا قال له : كن ، فكان "

ثم قال : لا يرويه إلا أغلب ، ولم يكن بالقوي ، وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين ، ولم يروه عنه إلا ابنه .

وقوله : ( وأرسلنا الرياح لواقح ) أي : تلقح السحاب فتدر ماء ، وتلقح الشجر فتتفتح عن أوراقها وأكمامها .

هذه " الرياح " ذكرها بصيغة الجمع ؛ ليكون منها الإنتاج ، بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها ، ووصفها بالعقيم ، وهو عدم الإنتاج ; لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعدا .

وقال الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : ( وأرسلنا الرياح لواقح ) قال : ترسل الرياح ، فتحمل الماء من السماء ، ثم تمرى السحاب ، حتى تدر كما تدر اللقحة .

وكذا قال ابن عباس ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة .

وقال الضحاك : يبعثها الله على السحاب ، فتلقحه ، فيمتلئ ماء . [ ص: 531 ]

وقال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثم تلا ( وأرسلنا الرياح لواقح )

وقد روى ابن جرير من حديث عبيس بن ميمون ، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الريح الجنوب من الجنة ، وهي [ الريح اللواقح ، وهي التي ] ذكر الله في كتابه ، وفيها منافع للناس " وهذا إسناد ضعيف .

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني يزيد بن جعدبة الليثي : أنه سمع عبد الله بن مخراق ، يحدث عن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين ، وإن من دونها بابا مغلقا ، وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب ، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء ، وهي عند الله الأزيب ، وهي فيكم الجنوب "

وقوله : ( فأسقيناكموه ) أي : أنزلناه لكم عذبا يمكنكم أن تشربوا منه ، ولو نشاء لجعلناه أجاجا . كما ينبه الله على ذلك في الآية الأخرى في سورة " الواقعة " وهو قوله : ( أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ) [ الواقعة : 68 - 70 ] وفي قوله : ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ) [ النمل : 10 ]

وقوله : ( وما أنتم له بخازنين ) قال سفيان الثوري : بمانعين .

ويحتمل أن المراد : وما أنتم له بحافظين ، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ، ونجعله معينا وينابيع في الأرض ، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا ، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك ؛ ليبقى لهم في طول السنة ، يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم .

وقوله : ( وإنا لنحن نحيي ونميت ) إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته ، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم ، ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع .

وأخبر أنه - تعالى - يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون .

ثم قال مخبرا عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم : ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) [ ص: 532 ] قال ابن عباس - رضي الله عنهما - المستقدمون : كل من هلك من لدن آدم - عليه السلام - والمستأخرون : من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة .

وروي نحوه عن عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، والشعبي ، وغيرهم . وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله -

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن رجل عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله : ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين )

وقد ورد في هذا حديث غريب جدا ، فقال ابن جرير : حدثني محمد بن موسى الحرشي ، حدثنا نوح بن قيس ، حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كانت تصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة - قال ابن عباس : لا والله ما إن رأيت مثلها قط - وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا يعني : لئلا يراها - وبعض يستأخرون ، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله : ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين )

وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره ، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما وابن ماجه من طرق عن نوح بن قيس الحداني وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما ، وحكي عن ابن معين تضعيفه ، وأخرج له مسلم وأهل السنن .

وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ، وقد رواه عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله : ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ) في الصفوف في الصلاة ) والمستأخرين ) فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ، ليس فيه لابن عباس ذكر وقد قال الترمذي : هذا أشبه من رواية نوح بن قيس ، والله أعلم .

وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر ، عن أبيه : أنه سمع عون بن عبد الله يذاكر محمد بن كعب في قوله : ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) وأنها في صفوف [ ص: 533 ] الصلاة ، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ) الميت والمقتول ، و ( المستأخرين ) من يخلق بعد ، ( وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ) فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيرا

التالي السابق


الخدمات العلمية