صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه )

قال أبو جعفر : وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يضل بالمثل الذي ضربه لأهل النفاق غيرهم ، فقال : وما يضل الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبل في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .

ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه :

فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته ، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونقضهم ذلك تركهم العمل به .

وقال آخرون : إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم " وبقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " فكل ما في هذه الآيات ، فعذل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قصصهم ، قالوا : فعهد الله الذي [ ص: 411 ] نقضوه بعد ميثاقه ، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - من العمل بما فيها ، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث ، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك الناس ، بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا .

وقال بعضهم : إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفاق . وعهده إلى جميعهم في توحيده : ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته . وعهده إليهم في أمره ونهيه : ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها ، الشاهدة لهم على صدقهم . قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة ، وتكذيبهم الرسل والكتب ، مع علمهم أن ما أتوا به حق .

وقال آخرون : العهد الذي ذكره الله جل ذكره ، هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ، الذي وصفه في قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ سورة الأعراف : 172 - 173 ] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به .

وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال : إن هذه الآيات نزلت في كفار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 412 ] وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل ، ومن كان على شركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصصهم فيما مضى من كتابنا هذا .

وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه : " إن الذين كفروا سواء عليهم " وقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " فيهم أنزلت ، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله . غير أن هذه الآيات عندي ، وإن كانت فيهم نزلت ، فإنه معني بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال ، ومعني بما وافق منها صفة المنافقين خاصة ، جميع المنافقين ، وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود ، جميع من كان لهم نظيرا في كفرهم .

وذلك أن الله جل ثناؤه يعم أحيانا جميعهم بالصفة ، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرت قصصهم ، ويخص أحيانا بالصفة بعضهم ، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيهم ، أعني : فريق المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله ، وفريق كفار أحبار اليهود . فالذين ينقضون عهد الله ، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وتبيين نبوته للناس ، الكاتمون بيان ذلك بعد علمهم به ، وبما قد أخذ الله عليهم في ذلك ، كما قال الله جل ذكره : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم ) [ سورة آل عمران : 187 ] ، ونبذهم ذلك وراء ظهورهم هو نقضهم العهد الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه وتركهم العمل به .

وإنما قلت : إنه عنى بهذه الآيات من قلت إنه عنى بها ، لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة - فيهم نزلت ، إلى تمام قصصهم . [ ص: 413 ] وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانه في قوله . ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ سورة البقرة : 40 ] . وخطابه إياهم - جل ذكره - بالوفاء في ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدل على أن قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " مقصود به كفارهم ومنافقوهم ، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم . غير أن الخطاب - وإن كان لمن وصفت من الفريقين - فداخل في أحكامهم ، وفيما أوجب الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ ، كل من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي .

فمعنى الآية إذا : وما يضل به إلا التاركين طاعة الله ، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه ، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم ، في الكتب التي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه ، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس ، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته ، وترك كتمان ذلك لهم ، ونكثهم ذلك ونقضهم إياه هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفت أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك . كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله : ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ) . [ سورة الأعراف : 169 ] . [ ص: 114 ]

وأما قوله : " من بعد ميثاقه " فإنه يعني : من بعد توثق الله فيه ، بأخذ عهوده بالوفاء له ، بما عهد إليهم في ذلك . غير أن التوثق مصدر من قولك : توثقت من فلان توثقا ، والميثاق اسم منه . والهاء في الميثاق عائدة على اسم الله .

وقد يدخل في حكم هذه الآية كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار ، في نقض العهد وقطع الرحم والإفساد في الأرض .

572 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " فإياكم ونقض هذا الميثاق ، فإن الله قد كره نقضه وأوعد فيه ، وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة ، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق . فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليف به لله .

573 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون " فهي ست خلال في أهل النفاق ، إذا كانت لهم الظهرة ، أظهروا هذه الخلال الست [ ص: 415 ] جميعا : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض . وإذا كانت عليهم الظهرة ، أظهروا الخلال الثلاث إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية