صفحة جزء
[ ص: 159 ] القول في تأويل قوله ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ( 121 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " ، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم ، أيها المؤمنون ، كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئا ، ولكن الله ينصركم عليهم إن صبرتم على طاعتي واتباع أمر رسولي ، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة . وإن أنتم خالفتم ، أيها المؤمنون ، أمري ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي ، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه وخالفتم أمري وأمر رسولي ، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد ، واذكروا ذلك اليوم ، إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين .

فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه ، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه ، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم إن صبروا على أمره واتقوا محارمه ، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حل بهم من البلاء بأحد ، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا الرأي بينهم .

وأخرج الخطاب في قوله : " وإذ غدوت من أهلك " ، على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بمعناه : الذين نهاهم أن يتخذوا الكفار مناليهود بطانة من دون المؤمنين . فقد بين إذا أن قوله : "وإذ " ، إنما جرها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت .

وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " .

فقال بعضهم : عنى بذلك يوم أحد .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 160 ]

7708 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، قال : مشى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين .

7709 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، ذلك يوم أحد ، غدا نبي الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال .

7710 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال .

7711 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، فهو يوم أحد .

7712 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " ، قال : هذا يوم أحد .

7713 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : مما نزل في يوم أحد : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين " .

وقال آخرون : عنى بذلك يوم الأحزاب .

ذكر من قال ذلك :

7714 - حدثني محمد بن سنان القزاز قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : [ ص: 161 ] حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " ، قال : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، غدا يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال يوم الأحزاب .

قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بالصواب قول من قال : "عنى بذلك يوم أحد " . لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها : ( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ) ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عنى بالطائفتين : بنو سلمة وبنو حارثة ، ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد ، دون يوم الأحزاب . فإن قال لنا قائل : وكيف يكون ذلك يوم أحد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما راح إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس ، كالذي حدثكم : -

7715 - ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلى الجمعة إلى أحد ، دخل فلبس لأمته ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج عليهم وقال : " ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " ؟ . [ ص: 162 ]

قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رواحا ، فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدهم للقتال عند خروجه ، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه . وذلك أن المشركين نزلوا منزلهم من أحد - فيما بلغنا - يوم الأربعاء ، فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة ، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة ، بعد ما صلى بأصحابه الجمعة ، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال .

7716 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم .

فإن قال : وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعد للقتال غدوا قبل خروجه ، وقد علمت أن "التبوئة " ، اتخاذ الموضع .

قيل : كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضة عدوه ، عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم ، بيوم أو يومين ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحدا قال فيما : -

7717 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط عن السدي لأصحابه : أشيروا علي ما أصنع ؟ " فقالوا : يا رسول الله ، اخرج إلى هذه الأكلب! فقالت الأنصار : يا رسول الله ، ما غلبنا عدو لنا أتانا في ديارنا ، فكيف وأنت فينا!! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول ، ولم يدعه قط قبلها ، فاستشاره ، فقال : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى هذه الأكلب! [ ص: 163 ] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة ، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال : يا رسول الله لا تحرمني الجنة ، فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة! فقال له : بم ؟ قال : بأني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وأني لا أفر من الزحف! قال : "صدقت . فقتل يومئذ . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها ، فلما رأوه وقد لبس السلاح ، ندموا وقالوا : بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه!! فقاموا واعتذروا إليه ، وقالوا : اصنع ما رأيت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل .

7718 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني ابن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني قد رأيت بقرا فأولتها خيرا ، ورأيت في ذباب سيفي ثلما ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة ، فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها . وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك : أن لا يخرج إليهم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة ، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد ، وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا! فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : يا رسول الله ، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم ، فوالله [ ص: 164 ] ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه ، فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا . فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم ، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته . .

فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعد للقتال ، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا ، على ما وصفه الذين حكينا قولهم .

يقال منه : "بوأت القوم منزلا وبوأته لهم ، فأنا أبوئهم المنزل تبوئة ، وأبوئ لهم منزلا تبوئة " .

وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود : ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال ) وذلك جائز ، كما يقال : "ردفك وردف لك " ، و"نقدت لها صداقها ونقدتها " ، كما قال الشاعر :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

والكلام : أستغفر الله لذنب . وقد حكي عن العرب سماعا : "أبأت القوم منزلا فأنا أبيئهم إباءة " ، ويقال منه : "أبأت الإبل " . إذا رددتها إلى المباءة . و"المباءة " ، المراح الذي تبيت فيه .

"والمقاعد " جمع "مقعد " ، وهو المجلس . [ ص: 165 ]

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : واذكر إذ غدوت ، يا محمد ، من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرا وموضعا لقتال عدوهم .

وقوله : "والله سميع عليم " ، يعني بذلك تعالى ذكره : "والله سميع " ، لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه ، من موضع لقائك ولقائهم عدوك وعدوهم ، من قول من قال : "اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة " ، وقول من قال لك : "لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا " ، على ما قد بينا قبل - ولما تشير به عليهم أنت يا محمد "عليم " بأصلح تلك الآراء لك ولهم ، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك ، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة ، وغير ذلك من أمرك وأمورهم ، كما : -

7719 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : "والله سميع عليم " ، أي : سميع لما يقولون ، عليم بما يخفون .

التالي السابق


الخدمات العلمية