صفحة جزء
[ ص: 452 ] القول في تأويل قوله ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ( 185 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود ، المكذبين برسوله ، الذين وصف صفتهم ، وأخبر عن جراءتهم على ربهم ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره ، ومرجع جميعهم إليه . لأنه قد حتم الموت على جميعهم ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك تكذيب من كذبك ، يا محمد ، من هؤلاء اليهود وغيرهم ، وافتراء من افترى علي ، فقد كذب قبلك رسل جاءوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه ، بمثل الذي جئت من أرسلت إليه ، فلك فيهم أسوة تتعزى بهم ، ومصير من كذبك وافترى علي وغيرهم ومرجعهم إلي ، فأوفي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة ، كما قال جل ثناؤه : " وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " ، يعني : أجور أعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر" فمن زحزح عن النار " ، يقول : فمن نحي عن النار وأبعد منها"فقد فاز" ، يقول : فقد نجا وظفر بحاجته .

يقال منه : "فاز فلان بطلبته ، يفوز فوزا ومفازا ومفازة" ، إذا ظفر بها .

وإنما معنى ذلك : فمن نحي عن النار فأبعد منها وأدخل الجنة ، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " ، يقول : وما لذات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها"إلا متاع الغرور " ، يقول : إلا متعة [ ص: 453 ] يمتعكموها الغرور والخداع المضمحل الذي لا حقيقة له عند الامتحان ، ولا صحة له عند الاختبار . فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم ، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره . يقول تعالى ذكره : ولا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها ، فإنما أنتم منها في غرور تمتعون ، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون .

وقد روي في تأويل ذلك ما : -

8314 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله : " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " ، قال : كزاد الراعي ، تزوده الكف من التمر ، أو الشيء من الدقيق ، أو الشيء يشرب عليه اللبن .

فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا ، إلى أن معنى الآية : وما الحياة الدنيا إلا متاع قليل ، لا يبلغ من تمتعه ولا يكفيه لسفره . وهذا التأويل ، وإن كان وجها من وجوه التأويل ، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا . لأن"الغرور" إنما هو الخداع في كلام العرب . وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة ، لأن الشيء قد يكون قليلا وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور . وأما الذي هو في غرور ، فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور .

و"الغرور" مصدر من قول القائل : "غرني فلان فهو يغرني غرورا" بضم"الغين" . وأما إذا فتحت"الغين" من"الغرور" ، فهو صفة للشيطان الغرور ، الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته .

وقد :

8315 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبدة وعبد الرحيم قالا حدثنا [ ص: 454 ] محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، واقرءوا إن شئتم" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " .

التالي السابق


الخدمات العلمية