القول في تأويل قوله ( 
وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل  ( 60 ) ) 
قال 
أبو جعفر   : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . 
فقرأته قرأة 
الحجاز  والشأم  والبصرة  وبعض 
الكوفيين   : ( وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، بمعنى : "عابد " ، فجعل"عبد " ، فعلا ماضيا من صلة المضمر ، ونصب"الطاغوت " ، بوقوع"عبد " عليه . 
وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين : ( 
وعبد الطاغوت  ) بفتح"العين " من"عبد " وضم بائها ، وخفض"الطاغوت " بإضافة"عبد " إليه . وعنوا بذلك : وخدم الطاغوت . 
12226 - حدثني بذلك 
المثنى  قال ، حدثنا 
إسحاق  قال ، حدثنا 
عبد الرحمن بن أبي حماد  قال ، حدثني 
حمزة  ، عن 
الأعمش  ، عن 
يحيى بن وثاب  أنه قرأ : ( 
وعبد الطاغوت  ) يقول : خدم ، قال 
عبد الرحمن   : وكان 
حمزة  كذلك يقرؤها .  
[ ص: 440 ]  12227 - حدثني 
ابن وكيع  وابن حميد  قالا حدثنا 
جرير  ، عن 
الأعمش   : أنه كان يقرؤها كذلك . 
وكان الفراء يقول : إن تكن فيه لغة مثل "حذر " و"حذر " ، و"عجل " ، و"عجل " ، فهو وجه ، والله أعلم وإلا فإن أراد قول الشاعر : 
أبني لبينى إن أمكم أمة وإن أباكم عبد 
فإن هذا من ضرورة الشعر ، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي ، وأما في القراءة فلا . 
وقرأ ذلك آخرون : ( 
وعبد الطاغوت  ) ذكر ذلك عن 
الأعمش   . 
وكأن من قرأ ذلك كذلك ، أراد جمع الجمع من "العبد " ، كأنه جمع "العبد " "عبيدا " ، ثم جمع "العبيد " "عبدا " ، مثل : "ثمار وثمر" . 
وذكر عن 
أبي جعفر القارئ  أنه كان يقرؤه : ( وعبد الطاغوت ) . 
12228 - حدثني 
المثنى  قال ، حدثنا 
إسحاق  قال ، حدثنا 
عبد الرحمن  قال : كان 
أبو جعفر النحوي  يقرؤها : ( وعبد الطاغوت ) ، كما يقول : "ضرب عبد الله" .  
[ ص: 441 ] قال 
أبو جعفر   : وهذه قراءة لا معنى لها ، لأن الله تعالى ذكره ، إنما ابتدأ الخبر بذم أقوام ، فكان فيما ذمهم به عبادتهم الطاغوت . وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عبد ، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية ، ولا من جنس ما ختمها به ، فيكون له وجه يوجه إليه في الصحة . 
وذكر أن 
بريدة الأسلمي  كان يقرؤه : ( وعابد الطاغوت ) . 
12229 - حدثني بذلك 
المثنى  قال ، حدثنا 
إسحاق  قال ، حدثنا 
عبد الرحمن  قال ، حدثنا شيخ بصري : أن 
بريدة  كان يقرؤه كذلك . 
ولو قرئ ذلك : ( وعبد الطاغوت ) ، بالكسر ، كان له مخرج في العربية صحيح ، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها ، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها . ووجه جوازها في العربية ، أن يكون مرادا بها "وعبدة الطاغوت " ، ثم حذفت " الهاء " للإضافة ، كما قال الراجز : 
قام ولاها فسقوه صرخدا 
يريد : قام ولاتها ، فحذف"التاء " من"ولاتها " للإضافة . 
قال 
أبو جعفر   : وأما قراءة القرأة ، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما ،  
[ ص: 442 ] وهو : ( وعبد الطاغوت ) ، بنصب"الطاغوت " وإعمال "عبد " فيه ، وتوجيه"عبد " إلى أنه فعل ماض من"العبادة" . 
والآخر : ( وعبد الطاغوت ) ، على مثال"فعل " ، وخفض"الطاغوت " بإضافة"عبد " إليه . 
فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجا في العربية منهما ، فأولاهما بالصواب من القراءة ، قراءة من قرأ ذلك ( وعبد الطاغوت ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة 
أبي بن كعب   nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود   : ( 
وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت  ) ، بمعنى : والذين عبدوا الطاغوت ففي ذلك دليل واضح على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به : ومن عبد الطاغوت ، وأن النصب ب"الطاغوت " أولى ، على ما وصفت في القراءة ، لإعمال "عبد " فيه ، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها . 
على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في"من " و"الذي " المضمرين مع"من " و"في " إذا كفت"من " أو"في " منهما ويستقبحونه ، حتى كان بعضهم يحيل ذلك ولا يجيزه . وكان الذي يحيل ذلك يقرؤه : ( وعبد الطاغوت ) ، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز . 
وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح . فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة . وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام ، قد اختاروا القراءة بها ، وإعمال و"جعل " في"من " ، وهي محذوفة مع"من" . 
ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه ، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين ، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضا فيهم لا يتناكرونه ، فلا نستجيز الخروج منه إلى غيره . فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين  
[ ص: 443 ] اللتين ذكرنا أنهم لم يعدوهما . 
وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الآية : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ، من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد الطاغوت . 
وقد بينا معنى"الطاغوت " فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا . 
وأما قوله : " 
أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل  " ، فإنه يعني بقوله : "أولئك " ، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره ، وهم الذين وصف صفتهم فقال : " 
من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت  " ، وكل ذلك من صفة 
اليهود  من بني إسرائيل . 
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم " شر مكانا " ، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نقمتم عليهم يا معشر اليهود إيمانهم بالله ، وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب ، وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء " وأضل عن سواء السبيل " ، يقول تعالى ذكره : وأنتم مع ذلك ، أيها 
اليهود ،  أشد أخذا على غير الطريق القويم ، وأجور عن سبيل الرشد والقصد منهم . 
قال 
أبو جعفر   : وهذا من لحن الكلام . وذلك أن الله تعالى ذكره إنما  
[ ص: 444 ] قصد بهذا الخبر إخبار 
اليهود  الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه ، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم ، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم ، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير ، خطابا منه لهم بذلك ، تعريضا بالجميل من الخطاب ، ولحن لهم بما عرفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن ، وعلم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له : قل لهم ، يا 
محمد ،  أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم شر ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقول ذلك لهم .