صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم ، ووصفهم إياه بما ليس من صفته ، توبيخا لهم بذلك ، وتعريفا منه نبيه صلى الله عليه وسلم قديم جهلهم واغترارهم به ، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم ، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم واحتجاجا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبي مبعوث ورسول مرسل : أن كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفي علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود ، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابا ، ووعوا من علوم أهل الكتاب علما ، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ليقرر عندهم صدقه ، ويقطع بذلك حجتهم .

يقول تعالى ذكره : "وقالت اليهود " ، من بني إسرائيل"يد الله مغلولة " ، يعنون : أن خير الله ممسك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم ، كما قال تعالى [ ص: 451 ] ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ سورة الإسراء : 29 ] .

وإنما وصف تعالى ذكره"اليد " بذلك ، والمعنى العطاء ، لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم . فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا ، إذا وصفوه بجود وكرم ، أو ببخل وشح وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل :


يداك يدا مجد ، فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالزاد تنفق



فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى"اليد" . ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى . فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، يعني بذلك : أنهم قالوا : إن الله يبخل علينا ، ويمنعنا فضله فلا يفضل كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف ، تعالى الله عما قالوا ، أعداء الله!

[ ص: 452 ] فقال الله مكذبهم ومخبرهم بسخطه عليهم : "غلت أيديهم " ، يقول : أمسكت أيديهم عن الخيرات ، وقبضت عن الانبساط بالعطيات" ولعنوا بما قالوا " ، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر ، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك

"بل يداه مبسوطتان " ، يقول : بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه ، غير مغلولتين ولا مقبوضتين "ينفق كيف يشاء " ، يقول : يعطي هذا ، ويمنع هذا فيقتر عليه .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

12242 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " ، قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكنهم يقولون : إنه بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .

12243 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يد الله مغلولة " ، قالوا : لقد تجهدنا الله يا بني إسرائيل ، حتى [ ص: 453 ] جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا !

12244 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يد الله مغلولة " ، قال : اليهود تقوله : لقد تجهدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب ، حتى إن يده إلى نحره " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " .

12245 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " إلى " والله لا يحب المفسدين " ، أما قوله : " يد الله مغلولة " ، قالوا : الله بخيل غير جواد! قال الله : " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " .

12246 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ، قالوا : إن الله وضع يده على صدره ، فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا .

وأما قوله : " ينفق كيف يشاء " ، يقول : يرزق كيف يشاء .

12247 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عكرمة : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " الآية ، نزلت في فنحاص اليهودي .

12248 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قوله : " يد الله مغلولة " ، يقولون : إنه [ ص: 454 ] بخيل ليس بجواد ! قال الله : " غلت أيديهم " ، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير . ثم قال يعني نفسه : " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " . وقال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) [ سورة الإسراء : 29 ] ، يقول : لا تمسك يدك عن النفقة .

قال أبو جعفر : واختلف أهل الجدل في تأويل قوله : " بل يداه مبسوطتان " . فقال بعضهم : عنى بذلك : نعمتاه . وقال : ذلك بمعنى : " يد الله على خلقه " ، وذلك نعمه عليهم . وقال : إن العرب تقول : " لك عندي يد " ، يعنون بذلك : نعمة .

وقال آخرون منهم : عنى بذلك القوة . وقالوا : ذلك نظير قول الله تعالى ذكره : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي ) [ سورة ص : 45 ] .

وقال آخرون منهم : بل"يده " ، ملكه . وقال : معنى قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، ملكه وخزائنه .

قالوا : وذلك كقول العرب للمملوك : "هو ملك يمينه " ، و"فلان بيده عقدة نكاح فلانة " ، أي يملك ذلك ، وكقول الله تعالى ذكره : ( فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) ، [ سورة المجادلة : 12 ] .

وقال آخرون منهم : بل"يد الله " صفة من صفاته ، هي يد ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم .

قالوا : وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصه آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده .

[ ص: 455 ] قالوا : ولو كان [ معنى"اليد " ، النعمة ، أو القوة ، أو الملك ، ما كان لخصوصه ] آدم بذلك وجه مفهوم ، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته ، ومشيئته في خلقه نعمة ، وهو لجميعهم مالك .

قالوا : وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقه إياه بيده دون غيره من عباده ، كان معلوما أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق .

قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، بطل قول من قال : معنى"اليد " من الله ، القوة والنعمة أو الملك ، في هذا الموضع .

قالوا : وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن : "يد الله " في قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، هي نعمته ، لقيل : "بل يده مبسوطة " ، ولم يقل : "بل يداه " ، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة . وبذلك جاء التنزيل ، يقول الله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ سورة إبراهيم : 34\ وسورة النحل : 18 ]

قالوا : ولو كانت نعمتين ، كانتا محصاتين .

قالوا : فإن ظن ظان أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة ، فذلك منه خطأ ، وذلك أن العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه ، وذلك كقول الله تعالى ذكره : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [ سورة العصر : 1 ، 2 ] وكقوله ( لقد خلقنا الإنسان ) ، [ سورة الحجر : 26 ] وقوله : ( وكان الكافر على ربه ظهيرا ) [ سورة الفرقان : 55 ] ، قال : فلم يرد ب"الإنسان " و"الكافر " في هذه الأماكن إنسان بعينه ، ولا كافر مشار إليه حاضر ، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار ، ولكن الواحد أدى عن جنسه ، كما تقول العرب : [ ص: 456 ] "ما أكثر الدرهم في أيدي الناس " ، وكذلك قوله : ( وكان الكافر ) معناه : وكان الذين كفروا .

قالوا : فأما إذا ثني الاسم ، فلا يؤدي عن الجنس ، ولا يؤدي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما .

قالوا : وخطأ في كلام العرب أن يقال : "ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس " ، بمعنى : ما أكثر الدراهم في أيديهم .

قالوا : وذلك أن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما .

قالوا : وغير محال : "ما أكثر الدرهم في أيدي الناس " ، و"ما أكثر الدراهم في أيديهم " ، لأن الواحد يؤدي عن الجميع .

قالوا : ففي قول الله تعالى : " بل يداه مبسوطتان " ، مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى ، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع ما ينبئ عن خطأ قول من قال : معنى"اليد " ، في هذا الموضع ، النعمة ، وصحة قول من قال : إن"يد الله " ، هي له صفة .

قالوا : وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به العلماء وأهل التأويل .

التالي السابق


الخدمات العلمية