1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة المائدة
  4. القول في تأويل قوله تعالى " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا "
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لتجدن ، يا محمد ، أشد الناس عداوة للذين صدقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام " اليهود والذين أشركوا " ، يعني : عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، يقول : ولتجدن أقرب الناس مودة ومحبة .

و"المودة " "المفعلة " ، من قول الرجل : "وددت كذا أوده ودا ، وودا ، وودا ومودة " ، إذا أحببته .

"للذين آمنوا " ، يقول : للذين صدقوا الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم " الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " ، [ ص: 499 ] عن قبول الحق واتباعه والإذعان به .

وقيل : إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة ، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحاب له أسلموا معه .

ذكر من قال ذلك :

12315 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشي وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا . قال : فأنزل الله تعالى فيهم : " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " ، إلى آخر الآية . قال : فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه ، فأسلم النجاشي ، فلم يزل مسلما حتى مات . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخاكم النجاشي قد مات ، فصلوا عليه! فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، والنجاشي ثم .

12316 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة .

12317 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفر بن أبي طالب ، وابن [ ص: 500 ] مسعود وعثمان بن مظعون ، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة . فلما بلغ ذلك المشركين ، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ، ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، فقالوا ، إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبي! وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم . قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأموا باب النجاشي ، فقالوا : استأذن لأولياء الله! فقال ، ائذن لهم ، فمرحبا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال له الرهط من المشركين : ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها! فقال لهم : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ فقالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول : " هو عبد الله وكلمة من الله ألقاها إلى مريم وروح منه " ، ويقول في مريم : "إنها العذراء البتول" . قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله ، وتغيرت وجوههم . قال لهم : هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم! قال : اقرءوا ! فقرءوا ، وهنالك منهم قسيسون ورهبان وسائر النصارى ، فعرفت كل ما قرءوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق . قال الله تعالى ذكره : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " الآية .

12318 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، الآية . قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى [ ص: 501 ] عشر رجلا من الحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ، ينظرون إليه ويسألونه . فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : " وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشي ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له .

12319 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عطاء في قوله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " الآية ، هم ناس من الحبشة آمنوا ، إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين .

وقال آخرون : بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان ، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به .

ذكر من قال ذلك :

12320 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، فقرأ حتى بلغ : "فاكتبنا مع الشاهدين " أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى ، يؤمنون به وينتهون إليه . فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، صدقوا به وآمنوا به ، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق ، فأثنى عليهم ما تسمعون .

قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندي : أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا : "إنا نصارى " ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسم لنا أسماءهم . وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة [ ص: 502 ] عيسى ، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه .

وأما قوله تعالى : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، فإنه يقول : قربت مودة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين ، من أجل أن منهم قسيسين ورهبانا .

و"القسيسون " جمع "قسيس" . وقد يجمع "القسيس " ، "قسوسا " ، لأن "القس " و"القسيس " ، بمعنى واحد .

وكان ابن زيد يقول في"القسيس " بما : -

12321 - حدثنا يونس قال ، حدثنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : "القسيس " ، عبادهم .

وأما الرهبان ، فإنه يكون واحدا وجمعا . فأما إذا كان جمعا ، فإن واحدهم يكون"راهبا " ، ويكون"الراهب " ، حينئذ "فاعلا " من قول القائل : "رهب الله فلان " ، بمعنى خافه ، "يرهبه رهبا ورهبا " ، ثم يجمع"الراهب " ، "رهبان " مثل"راكب " و"ركبان " ، و"فارس " و"فرسان" . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول الشاعر :


رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف العقول الفادر



[ ص: 503 ] وقد يكون"الرهبان " واحدا . وإذا كان واحدا كان جمعه"رهابين " مثل "قربان " و"قرابين " ، و"جردان" . و"جرادين" . ويجوز جمعه أيضا"رهابنة " إذا كان كذلك . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر :


لو عاينت رهبان دير في القلل     لانحدر الرهبان يمشي ونزل



[ ص: 504 ] واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : "ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا" .

فقال بعضهم : عني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم ، واتبعوه على شريعته .

ذكر من قال ذلك :

12321 م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : كانوا نواتي في البحر يعني : ملاحين قال : فمر بهم عيسى ابن مريم ، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه : قال : فذلك قوله : " قسيسين ورهبانا " .

وقال آخرون : بل عني بذلك ، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

12322 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم قال ، حدثنا عنبسة ، عمن حدثه ، عن أبي صالح في قوله : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : ستة وستون ، أو سبعة وستون ، أو ثمان وستون من الحبشة ، كلهم [ ص: 505 ] صاحب صومعة ، عليهم ثياب الصوف .

12323 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : بعث النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم ، فجعلوا يبكون ، فقال : هم هؤلاء !

12324 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " ، قال : هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخير فالخير ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم : ( يس والقرآن الحكيم ) [ سورة يس : 1 ، 2 ] ، فبكوا وعرفوا الحق ، فأنزل الله فيهم : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " ، وأنزل فيهم : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) إلى قوله : ( يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) [ سورة القصص : 53 ، 54 ] .

قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله ، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة ، وترهب في الديارات والصوامع ، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها ، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه ، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه ، لأنهم [ ص: 506 ] أهل دين واجتهاد فيه ، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله ، وليسوا كاليهود الذين قد دربوا بقتل الأنبياء والرسل ، ومعاندة الله في أمره ونهيه ، وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية