صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - للمؤمنين به وبرسوله : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم ، أو كان أوصى إليهما أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية ، فأوصيتم إليهما ، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم . فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال ، فأصابتكم مصيبة الموت ، فأديا إلى ورثتكم ما اتمنتموهما وادعوا عليهما خيانة خاناها مما اتمنا عليه ، فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما يقول : تستوقفونهما بعد الصلاة . وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف ، وهو : " فأصابتكم مصيبة الموت ، وقد أسندتم وصيتكم إليهما ، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال " فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة " فيقسمان بالله إن ارتبتم " يقول : فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها و " الارتياب " هو الاتهام " لا نشتري به ثمنا " [ ص: 173 ] يقول : يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنا ، يقول : لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه ، وعلى مال نذهب به ، أو لحق نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وليهم وميتهم .

و " الهاء " في قوله : " به " من ذكر " الله " والمعني به الحلف والقسم ، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به ، فعرف معنى الكلام ، اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف .

" ولو كان ذا قربى " يقول : يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضا فنكذب فيها لأحد ، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس .

ذكر من قال ذلك :

12947 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين . فإن ارتيب في شهادتهما ، استحلفا بعد الصلاة بالله : لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلا .

وقوله : " تحبسونهما من بعد الصلاة " من صلاة الآخرين . ومعنى الكلام : [ ص: 174 ] أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة ، إن ارتبتم بهما ، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى .

واختلفوا في " الصلاة " التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، فقال : " تحبسونهما من بعد الصلاة " .

فقال بعضهم : هي صلاة العصر .

ذكر من قال ذلك :

12948 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا زكريا عن الشعبي : أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! قال : فأحلفهما بعد العصر : بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ، ولا غيرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته . قال : فأمضى شهادتهما .

12949 - حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : " أو آخران من غيركم " قال : إذا كان الرجل بأرض الشرك ، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان بعد العصر .

12950 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بمثله .

12951 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة [ ص: 175 ] قوله : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى " فأصابتكم مصيبة الموت " فهذا رجل مات بغربة من الأرض ، وترك تركته ، وأوصى بوصيته ، وشهد على وصيته رجلان . فإن ارتيب في شهادتهما ، استحلفا بعد العصر . وكان يقال : عندها تصير الأيمان .

12952 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسعيد بن جبير : أنهما قالا في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين . فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب . فإذا قدما بتركته ، فإن صدقهما الورثة قبل قولهما ، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر : بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خنا ولا غيرنا .

12953 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن القطان قال : حدثنا زكريا قال : حدثنا عامر : أن رجلا توفي بدقوقا ، فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها . فأحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة : بالله ما كتما ولا غيرا ، وأن هذه الوصية . فأجازها .

وقال آخرون : بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما .

ذكر من قال ذلك :

12954 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى قوله : " ذوا عدل منكم " قال : هذا في الوصية عند الموت ، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وعليه ، قال : هذا في الحضر " أو آخران من غيركم " في السفر " إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " هذا ، الرجل [ ص: 176 ] يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ، ويدفع إليهما ميراثه . فيقبلان به . فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم ، تركوا الرجلين . وإن ارتابوا ، رفعوهما إلى السلطان . فذلك قوله : " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم " . قال عبد الله بن عباس : كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة ، فأنكر أهل الميت ، وخونوهما . فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت له : " إنهما لا يباليان صلاة العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما ، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما ، ويحلفان بالله : لا نشتري ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ، أن صاحبهم لبهذا أوصى ، وأن هذه لتركته . فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ، ولم تجز لكما شهادة ، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك ، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : " تحبسونهما من بعد صلاة العصر " . لأن الله تعالى عرف " الصلاة " في هذا الموضع بإدخال " الألف واللام " فيها ، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف ، إما في جنس ، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين . فإذا كان كذلك ، وكانت " الصلاة " في هذا الموضع مجمعا على أنه لم يعن بها جميع الصلوات ، لم يجز أن يكون مرادا بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى ، لأن لهم صلوات ليست واحدة ، فيكون معلوم أنها المعنية بذلك . فإذ كان ذلك كذلك ، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 177 ] صحيحا عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين ، لاعن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات كان معلوما أن التي عنيت بقوله : " تحبسونهما من بعد الصلاة " هي الصلاة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه . هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت ، وذلك لقربه من غروب الشمس .

وكان ابن زيد يقول في قوله : " لا نشتري به ثمنا " ما : -

12955 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا نشتري به ثمنا " قال : نأخذ به رشوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية