القول في تأويل قوله ( 
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  ( 112 ) ) 
قال 
أبو جعفر   : يقول - تعالى ذكره - : واذكر ، يا 
عيسى ،  أيضا نعمتي عليك ، إذ أوحيت إلى 
الحواريين  أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قالوا 
لعيسى ابن مريم  هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء - ف " إذ " الثانية من صلة " أوحيت " . 
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " يستطيع ربك " 
فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين : ( هل تستطيع ) بالتاء ( ربك ) بالنصب ، بمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو : هل تستطيع أن تدعو ربك؟  
[ ص: 219 ] أو : هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا : لم يكن الحواريون شاكين أن الله - تعالى ذكره - قادر أن ينزل عليهم ذلك ، وإنما قالوا 
لعيسى   : هل تستطيع أنت ذلك؟ 
12993 - حدثنا 
ابن وكيع  قال : حدثنا 
محمد بن بشر  ، عن 
نافع  ، عن 
ابن عمر  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة  قال : قالت 
عائشة   : كان 
الحواريون  لا يشكون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة ، ولكن قالوا : يا 
عيسى  هل تستطيع ربك؟ 
12994 - حدثني 
أحمد بن يوسف التغلبي  قال : حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=12074القاسم بن سلام  قال : حدثنا 
ابن مهدي  ، عن 
جابر بن يزيد بن رفاعة  ، عن 
حسان بن مخارق  ، عن 
سعيد بن جبير   : أنه قرأها كذلك : ( هل تستطيع ربك ) ، وقال : تستطيع أن تسأل ربك . وقال : ألا ترى أنهم مؤمنون؟ 
وقرأ ذلك عامة قرأة 
المدينة  والعراق   : ( هل يستطيع ) بالياء ( ربك ) ، بمعنى : أن ينزل علينا ربك ، كما يقول الرجل لصاحبه : " أتستطيع أن تنهض معنا في كذا " ؟ وهو يعلم أنه يستطيع ، ولكنه إنما يريد : أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مراد قارئه كذلك : هل يستجيب لك ربك ويطيعك أن تنزل علينا؟  
[ ص: 220 ] 
قال 
أبو جعفر   : وأولى القراءتين عندي بالصواب ، قراءة من قرأ ذلك : ( هل يستطيع ) بالياء ( ربك ) برفع " الرب " بمعنى : هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟ 
وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب ، لما بينا قبل من أن قوله : " إذ قال 
الحواريون   " من صلة : " إذ أوحيت " وأن معنى الكلام : وإذ أوحيت إلى 
الحواريين  أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قال 
الحواريون  يا 
عيسى  ابن مريم هل يستطيع ربك؟ فبين إذ كان ذلك كذلك ، أن الله - تعالى ذكره - قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه ، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قيلهم ذلك ، والإقرار لله بالقدرة على كل شيء ، وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الأخبار . وقد قال 
عيسى  لهم ، عند قيلهم ذلك له ، استعظاما منه لما قالوا : " 
اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  " . ففي استتابة الله إياهم ، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - عند قيلهم ما قالوا من ذلك ، واستعظام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كلمتهم ، الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع " الرب " إذ كان لا معنى في قولهم 
لعيسى ،  لو كانوا قالوا له : هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ أن يستكبر هذا الاستكبار . 
فإن ظن ظان أن قولهم ذلك له إنما استعظم منهم ، لأن ذلك منهم كان مسألة آية ، فقد ظن خطأ . فإن الآية ، إنما يسألها الأنبياء من كان بها مكذبا  
[ ص: 221 ] ليتقرر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها ، كما كانت مسألة قريش نبينا 
محمدا   - صلى الله عليه وسلم - أن يحول لهم 
الصفا  ذهبا ، ويفجر فجاج 
مكة  أنهارا ، من سأله من مشركي قومه وكما كانت مسألة 
صالح  الناقة من مكذبي قومه ومسألة 
شعيب  أن يسقط كسفا من السماء ، من كفار من أرسل إليه . 
فإن كان الذين سألوا 
عيسى  أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء ، على هذا الوجه كانت مسألتهم ، فقد أحلهم الذين قرءوا ذلك ب " التاء " ونصب " الرب " محلا أعظم من المحل الذي ظنوا أنهم يحيدون بهم عنه أو يكونوا سألوا ذلك 
عيسى  وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسل ، وأن الله - تعالى ذكره - على ما سألوا من ذلك قادر . 
فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك ، وإنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه ، إذا كان فقيرا ، أن يسأل له ربه أن يغنيه وإن عرضت له حاجة ، أن يسأل له ربه أن يقضيها ، فليس ذلك من مسألة الآية في شيء ، بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه ، فسأل نبيه مسألة ربه أن يقضيها له . 
وخبر الله - تعالى ذكره - عن القوم ، ينبئ بخلاف ذلك . وذلك أنهم قالوا 
لعيسى  ، إذ قال لهم : " 
اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  " " 
نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا  " .  
[ ص: 222 ] فقد أنبأ هذا من قيلهم ، أنهم لم يكونوا يعلمون أن 
عيسى  قد صدقهم ، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته . فلا بيان أبين من هذا الكلام ، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم ، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
12995 - حدثنا 
القاسم  قال : حدثنا 
الحسين  قال : حدثني 
حجاج  ، عن 
ليث  ، عن 
عقيل  ، عن 
ابن عباس   : أنه كان يحدث عن 
عيسى   - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال 
لبني إسرائيل   : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له! ففعلوا ، ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا : " إن أجر العامل على من عمل له " وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ، ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما ، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال 
عيسى   : " 
اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  " " 
قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين  " إلى قوله : " 
لا أعذبه أحدا من العالمين  " . قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم  . 
12996 - حدثني 
محمد بن الحسين  قال : حدثنا 
أحمد بن مفضل  قال : حدثنا 
أسباط  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي   : " 
هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء  " قالوا : هل يطيعك ربك ، إن سألته؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم ، فأكلوا منها  .  
[ ص: 223 ] 
وأما " المائدة " فإنها " الفاعلة " من : " ماد فلان القوم يميدهم ميدا " إذا أطعمهم ومارهم ، ومنه قول 
رؤبة   : 
نهدي رؤوس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد 
يعني بقوله : " الممتاد " المستعطى . ف " المائدة " المطعمة ، سميت " الخوان " بذلك ، لأنها تطعم الآكل مما عليها . و " المائد " المدار به في البحر ، يقال : " ماد يميد ميدا " . 
وأما قوله : " 
قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  " فإنه يعني : قال 
عيسى  للحواريين  القائلين له : " 
هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء  " راقبوا الله ، أيها القوم ، وخافوه أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا ، فإن الله لا يعجزه شيء أراده ، وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء ، كفر به ، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته " إن كنتم مؤمنين " يقول : إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم : " 
هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء  " ؟