صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( وإذ واعدنا )

اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأ بعضهم : ( واعدنا ) بمعنى أن الله تعالى واعد موسى موافاة الطور لمناجاته ، فكانت المواعدة من الله لموسى ، ومن موسى لربه . وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة ( واعدنا ) على " وعدنا " أن قالوا : كل اتعاد كان بين اثنين للالتقاء والاجتماع ، فكل واحد منهما [ ص: 59 ] مواعد صاحبه ذلك . فلذلك - زعموا - وجب أن يقضى لقراءة من قرأ ( واعدنا ) بالاختيار على قراءة من قرأ " وعدنا " .

وقرأ بعضهم : " وعدنا " بمعنى أن الله الواعد والمنفرد بالوعد دونه . وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك أن قالوا : إنما تكون المواعدة بين البشر ، فأما الله جل ثناؤه ، فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشر . قالوا : وبذلك جاء التنزيل في القرآن كله ، فقال جل ثناؤه : ( إن الله وعدكم وعد الحق ) [ إبراهيم : 22 ] وقال : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) [ الأنفال : 7 ] . قالوا : فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله : " وإذ وعدنا موسى " .

والصواب عندنا في ذلك من القول : أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القرأة ، وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى ، وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة . فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان . وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بموضع من المواضع ، فمعلوم أن الموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك المكان ، مثل الذي وعده من ذلك صاحبه ، إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفاق منهما عليه . ومعلوم أن موسى صلوات الله عليه لم يعده ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك ، إذ كان موسى غير مشكوك فيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا ، وإلى محبته فيه مسارعا . ومعقول أن الله تعالى لم يعد موسى ذلك ، إلا وموسى إليه مستجيب . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الله عز ذكره قد كان وعد موسى الطور ، ووعده موسى اللقاء . فكان الله عز ذكره لموسى واعدا مواعدا [ ص: 60 ] له المناجاة على الطور ، وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء . فبأي القراءتين من " وعد " و" واعد " قرأ القارئ ، فهو للحق في ذلك - من جهة التأويل واللغة - مصيب ، لما وصفنا من العلل قبل .

ولا معنى لقول القائل : إنما تكون المواعدة بين البشر ، وأن الله بالوعد والوعيد منفرد في كل خير وشر . وذلك أن انفراد الله بالوعد والوعيد في الثواب والعقاب ، والخير والشر ، والنفع والضر الذي هو بيده وإليه دون سائر خلقه - لا يحيل الكلام الجاري بين الناس في استعمالهم إياه عن وجوهه ، ولا يغيره عن معانيه . والجاري بين الناس من الكلام المفهوم ما وصفنا : من أن كل اتعاد كان بين اثنين ، فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه ، ومواعدة بينهما ، وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد ، وأن الوعد الذي يكون به الانفراد من الواعد دون الموعود ، إنما هو ما كان بمعنى " الوعد " الذي هو خلاف " الوعيد " .

التالي السابق


الخدمات العلمية