صفحة جزء
[ ص: 450 ] القول في تأويل قوله ( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا )

قال أبو جعفر : وهذا تنبيه من الله - تعالى ذكره - نبيه - صلى الله عليه وسلم - على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان . يقول له - تعالى ذكره - : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأنداد ، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم : أندعو من دون الله حجرا أو خشبا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا ، فنخصه بالعبادة دون الله ، وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت ، إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر ؟ فلا شك أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره ، أحق وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره !

" ونرد على أعقابنا " يقول : ونرد إلى أدبارنا ، فنرجع القهقري خلفنا ، لم نظفر بحاجتنا .

وقد بينا معنى : " الرد على العقب " وأن العرب تقول لكل طالب حاجة لم يظفر بها : " رد على عقبيه " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وإنما يراد به في هذا الموضع : ونرد من الإسلام إلى الكفر " بعد إذ هدانا الله ، فوفقنا له ، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان ، يهوي في الأرض حيران .

وقوله : " استهوته " " استفعلته " من قول القائل : " هوى فلان إلى كذا يهوي [ ص: 451 ] إليه " ومن قول الله - تعالى ذكره - : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، [ سورة إبراهيم : 37 ] ، بمعنى : تنزع إليهم وتريدهم .

وأما " حيران " فإنه " فعلان " من قول القائل : " قد حار فلان في الطريق ، فهو يحار فيه حيرة وحيرانا وحيرورة " وذلك إذ ضل فلم يهتد للمحجة .

" له أصحاب يدعونه إلى الهدى " يقول : لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض ، أصحاب على المحجة واستقامة السبيل ، يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه ، يقولون له : ائتنا .

وترك إجراء " حيران " لأنه " فعلان " وكل اسم كان على " فعلان " مما أنثاه " فعلى " فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة .

قال أبو جعفر : وهذا مثل ضربه الله - تعالى ذكره - لمن كفر بالله بعد إيمانه ، فاتبع الشياطين ، من أهل الشرك بالله - وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه ، المقيمون على الدين الحق ، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون ، والصواب الذي هم به متمسكون ، وهو له مفارق وعنه زائل ، يقولون له : " ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى " ! وهو يأبى ذلك ، ويتبع دواعي الشيطان ، ويعبد الآلهة والأوثان .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل ، وخالف في ذلك جماعة .

ذكر من قال ذلك مثل ما قلنا : [ ص: 452 ]

13422 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا " ، قال : قال المشركون للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ، واتركوا دين محمد - صلى الله عليه وسلم - . فقال الله - تعالى ذكره - : " قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا " هذه الآلهة " ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله " فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض ، يقول : مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان ، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق ، فضل الطريق ، فحيرته الشياطين ، واستهوته في الأرض ، وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم ، يقولون : " ائتنا ، فإنا على الطريق " فأبى أن يأتيهم . فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد ، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام .

13423 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا " قال : هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها ، وللدعاة الذين يدعون إلى الله ، كمثل رجل ضل عن الطريق تائها ضالا إذ ناداه مناد : " يا فلان ابن فلان ، هلم إلى الطريق " وله أصحاب يدعونه : " يا فلان ، هلم إلى الطريق " ! فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة ، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق . وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان . يقول : مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت ، فيستقبل الهلكة والندامة . وقوله : " كالذي استهوته الشياطين في الأرض " وهم " الغيلان " يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده ، فيتبعها ، فيرى أنه في شيء ، فيصبح وقد ألقته في الهلكة ، وربما أكلته [ ص: 453 ] أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا . فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل .

13424 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : " استهوته الشياطين في الأرض " قال : أضلته في الأرض حيران .

13425 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ما لا ينفعنا ولا يضرنا " قال : الأوثان .

13426 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - تعالى ذكره - : " استهوته الشياطين في الأرض حيران " قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق ، فذلك مثل من يضل بعد إذ هدي .

13427 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : حدثنا رجل ، عن مجاهد قال ، " حيران " هذا مثل ضربه الله للكافر ، يقول : الكافر حيران ، يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب .

13428 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا " حتى بلغ " لنسلم لرب العالمين " علمها الله محمدا وأصحابه ، يخاصمون بها أهل الضلالة .

وقال آخرون في تأويل ذلك ، بما : -

13429 - حدثني به محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي [ ص: 454 ] قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى " فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان ، وعمل في الأرض بالمعصية ، وحار عن الحق وضل عنه ، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ، ويزعمون أن الذي يأمرونه هدى . يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس : إن الهدى هدى الله ، والضلالة ما تدعو إليه الجن .

فكأن ابن عباس على هذه الرواية يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال ، ويزعمون أن ذلك هدى ، وأن الله أكذبهم بقوله : " قل إن هدى الله هو الهدى " لا ما يدعوه إليه أصحابه .

وهذا تأويل له وجه ، لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيران إليه أصحابه " هدى " وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه : أنهم هم الذين سموه ، ولكن الله سماه " هدى " وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه . وغير جائز أن يسمي الله " الضلال " هدى ، لأن ذلك كذب ، وغير جائز وصف الله بالكذب ، لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته . وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب ، لو كان ذلك خبرا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له : " تعال إلى الهدى " فأما وهو قائل : " يدعونه إلى الهدى " فغير جائز أن يكون ذلك ، وهم كانوا يدعونه إلى الضلال .

وأما قوله : " ائتنا " فإن معناه : يقولون : ائتنا ، هلم إلينا فحذف " القول " لدلالة الكلام عليه .

وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : ( يدعونه إلى الهدى بينا ) .

13430 - حدثنا بذلك ابن وكيع قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن [ ص: 455 ] أبي إسحاق قال : في قراءة عبد الله : ( يدعونه إلى الهدى بينا ) .

13431 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : في قراءة ابن مسعود : ( له أصحاب يدعونه إلى الهدى بينا ) ، قال : " الهدى " الطريق ، أنه بين .

وإذا قرئ ذلك كذلك ، كان " البين " من صفة " الهدى " ويكون نصب " البين " على القطع من " الهدى " كأنه قيل : يدعونه إلى الهدى البين ، ثم نصب " البين " لما حذفت " الألف واللام " وصار نكرة من صفة المعرفة .

وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال : " الهدى " في هذا الموضع ، هو الهدى على الحقيقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية