صفحة جزء
[ ص: 521 ] القول في تأويل قوله ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : " وما قدروا الله حق قدره " وما أجلوا الله حق إجلاله ، ولا عظموه حق تعظيمه " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " يقول : حين قالوا : لم ينزل الله على آدمي كتابا ولا وحيا .

واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " وفي تأويل ذلك .

فقال بعضهم : كان قائل ذلك رجلا من اليهود .

ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل .

فقال بعضهم : كان اسمه : مالك بن الصيف .

وقال بعضهم : كان اسمه فنحاص .

واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قال ذلك .

ذكر من قال : كان قائل ذلك : مالك بن الصيف .

13535 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟ وكان حبرا سمينا ، فغضب فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ! ولا موسى ! فقال : [ ص: 522 ] والله ما أنزل الله على بشر من شيء ! فأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى " الآية .

13536 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " قال : نزلت في مالك بن الصيف ، كان من قريظة ، من أحبار يهود ، " قل " يا محمد " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس " الآية .

ذكر من قال : نزلت في فنحاص اليهودي .

13537 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " قال : قال فنحاص اليهودي : ما أنزل الله على محمد من شيء !

وقال آخرون : بل عنى بذلك جماعة من اليهود ، سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - آيات مثل آيات موسى .

ذكر من قال ذلك :

13538 - حدثنا هناد قال : حدثنا يونس قال : حدثنا أبو معشر المدني ، عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من يهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محتب ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ألا تأتينا بكتاب من السماء ، كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله ؟ فأنزل الله : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ، الآية [ سورة النساء : 153 ] . فجثا رجل من يهود فقال : ما أنزل الله عليك [ ص: 523 ] ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا ! فأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره " . قال محمد بن كعب : ما علموا كيف الله " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا " فحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبوته ، وجعل يقول : " ولا على أحد " .

13539 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " إلى قوله : " في خوضهم يلعبون " هم اليهود والنصارى ، قوم آتاهم الله علما فلم يقتدوا به ، ولم يأخذوا به ، ولم يعملوا به ، فذمهم الله في عملهم ذلك . ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول : إن من أكثر ما أنا مخاصم به غدا أن يقال : يا أبا الدرداء ، قد علمت ، فماذا عملت فيما علمت ؟

13540 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " يعني من بني إسرائيل ، قالت اليهود : يا محمد ، أنزل الله عليك كتابا ؟ قال : نعم ! قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ! قال : فأنزل الله : " قل " يا محمد " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس " إلى قوله : " ولا آباؤكم " قال : الله أنزله .

وقال آخرون : هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا : " ما أنزل الله على بشر من شيء " . [ ص: 524 ]

ذكر من قال ذلك :

13541 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال عبد الله بن كثير : إنه سمع مجاهدا يقول : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " قالها مشركو قريش . قال : وقوله : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ) ، قال : هم يهود ، الذين يبدونها ويخفون كثيرا . قال : وقوله : " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " قال : هذه للمسلمين .

13542 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وما قدروا الله حق قدره " قال : هم الكفار ، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم ، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير ، فقد قدر الله حق قدره . ومن لم يؤمن بذلك ، فلم يقدر الله حق قدره .

13543 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وما قدروا الله حق قدره " يقول : مشركو قريش .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : عنى بقوله " وما قدروا الله حق قدره " مشركو قريش . وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم ، أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية ، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب ، وليس ذلك مما تدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود : الإقرار [ ص: 525 ] بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود . وإذا لم يأت بما روي من الخبر ، بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود ، خبر صحيح متصل السند ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع ، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان وكان قوله : " وما قدروا الله حق قدره " موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول ، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل .

ولكني أظن أن الذين تأولوا ذلك خبرا عن اليهود ، وجدوا قوله " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة ، فقرءوه على وجه الخطاب لهم : تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ، فجعلوا ابتداء الآية خبرا عنهم ، إذ كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم . وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل ، لما وصفت قبل من أن قوله : " وما قدروا الله حق قدره " في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل ، فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم .

والأصوب من القراءة في قوله : ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ) ، أن يكون بالياء لا بالتاء ، على معنى : أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ، ويكون الخطاب بقوله : " قل من أنزل الكتاب " لمشركي قريش . وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك ، وكذلك كان يقرأ .

13544 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا [ ص: 526 ] حماد ، عن أيوب ، عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف : ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية