صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله )

قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بقوله : " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا " ممن افترى على الله كذبا " يعني : ممن اختلق [ ص: 533 ] على الله كذبا ، فادعى عليه أنه بعثه نبيا وأرسله نذيرا ، وهو في دعواه مبطل ، وفي قيله كاذب .

وهذا تسفيه من الله لمشركي العرب ، وتجهيل منه لهم ، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، والحنفي مسيلمة ، لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، بدعوى أحدهما النبوة ، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونفي منه عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - اختلاق الكذب عليه ودعوى الباطل .

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك .

فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك :

13555 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء " قال : نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة ، فيما كان يسجع ويتكهن به " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، أخي بني عامر بن لؤي ، كان كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان فيما يملى " عزيز حكيم " فيكتب " غفور رحيم " فيغيره ، ثم يقرأ عليه " كذا وكذا " لما حول ، فيقول : " نعم ، سواء " . فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم : لقد كان ينزل عليه " عزيز حكيم " فأحوله ، ثم أقرأ ما كتبت ، فيقول : " نعم سواء " ! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة ، إذ [ ص: 534 ] نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمر .

وقال بعضهم : بل نزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة .

ذكر من قال ذلك :

13556 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء إلى قوله : " تجزون عذاب الهون " . قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، أسلم ، وكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان إذا أملى عليه : " سميعا عليما " كتب هو : " عليما حكيما " وإذا قال : " عليما حكيما " كتب : " سميعا عليما " فشك وكفر ، وقال : إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إلي ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله ! قال محمد : " سميعا عليما " فقلت أنا : " عليما حكيما " ! فلحق بالمشركين ، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي ، أو لبني عبد الدار . فأخذوهم فعذبوا حتى كفروا ، وجدعت أذن عمار يومئذ . فانطلق عمار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما لقي ، والذي أعطاهم من الكفر ، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولاه ، فأنزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا ) [ ص: 535 ] [ سورة النحل : 106 ] ، فالذي أكره عمار وأصحابه ، والذي شرح بالكفر صدرا فهو ابن أبي سرح .

وقال آخرون : بل القائل : " أوحي إلي ولم يوح إليه شيء " مسيلمة الكذاب .

ذكر من قال ذلك :

13557 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في مسيلمة . ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب ، فكبرا علي وأهماني ، فأوحي إلي : أن انفخهما ، فنفختهما فطارا ، فأولتهما في منامي الكذابين اللذين أنا بينهما ، كذاب اليمامة مسيلمة ، وكذاب صنعاء العنسي . وكان يقال له : " الأسود " .

13558 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : " أوحي إلي ولم يوح إليه شيء " قال : نزلت في مسيلمة .

13559 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وزاد فيه : وأخبرني الزهري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب ، فكبر ذلك علي ، فأوحي إلي [ ص: 536 ] أن انفخهما ، فنفختهما فطارا ، فأولت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء العنسي .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله قال : " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء " ولا تمانع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال : " إني قد قلت مثل ما قال محمد " وأنه ارتد عن إسلامه ولحق بالمشركين ، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريا كذبا . وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسي الكذابين ، ادعيا على الله كذبا . أنه بعثهما نبيين ، وقال كل واحد منهما إن الله أوحى إليه ، وهو كاذب في قيله . فإذ كان ذلك كذلك ، فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقا على الله كذبا ، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره : " أوحى الله إلي " وهو في قيله كاذب ، لم يوح الله إليه شيئا . فأما التنزيل ، فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عني به جميع المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم ، فلم يغيروه . فعيرهم الله بذلك ، وتوعدهم بالعقوبة على تركهم نكير ذلك ، ومع تركهم نكيره هم بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - مكذبون ، ولنبوته جاحدون ، ولآيات كتاب الله وتنزيله دافعون ، فقال لهم جل ثناؤه : " ومن أظلم ممن ادعى علي النبوة كاذبا " وقال : " أوحي إلي " ولم يوح إليه شيء ، ومع ذلك يقول : " ما أنزل الله على بشر من شيء " فينقض قوله بقوله ، ويكذب بالذي تحققه ، وينفي ما يثبته . وذلك إذا تدبره العاقل الأريب علم أن فاعله من عقله عديم .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " ما : - [ ص: 537 ]

13560 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " قال : زعم أنه لو شاء قال مثله يعني الشعر .

فكأن ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوله ، يوجه معنى قول قائل : " سأنزل مثل ما أنزل الله " إلى : سأنزل مثل ما قال الله من الشعر . وكذلك تأوله السدي . وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى .

التالي السابق


الخدمات العلمية