صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ( 5 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها ، إذ جاءهم بأسنا وسطوتنا بياتا أو هم قائلون ، إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين ، وبربهم آثمين ، ولأمره ونهيه مخالفين .

وعنى بقوله جل ثناؤه : ( دعواهم ) ، في هذا الموضع دعاءهم .

ول " الدعوى " ، في كلام العرب ، وجهان : أحدهما : الدعاء ، والآخر : الادعاء للحق .

ومن " الدعوى " التي معناها الدعاء ، قول الله تبارك وتعالى : ( فما زالت تلك دعواهم ) [ سورة الأنبياء : 15 ] ، ومنه قول الشاعر :

[ ص: 304 ]

وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي بدعواك من مذل بها فيهون



وقد بينا فيما مضى قبل أن " البأس " و " البأساء " الشدة ، بشواهد ذلك الدالة على صحته ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " .

وقد تأول ذلك كذلك بعضهم .

14323 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله : ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم - قال قلت لعبد الملك : كيف يكون ذلك؟ قال : فقرأ هذه الآية : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا ) ، الآية .

فإن قال قائل : وكيف قيل : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) ؟ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك ، وقد جاءهم بأس الله بالهلاك؟ أقالوا ذلك قبل الهلاك؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك ، فإنهم قالوا قبل [ ص: 305 ] مجيء البأس ، والله يخبر عنهم أنهم قالوه حين جاءهم ، لا قبل ذلك؟ أو قالوه بعد ما جاءهم ، فتلك حالة قد هلكوا فيها ، فكيف يجوز وصفهم بقبل ذلك إذا عاينوا بأس الله وحقيقة ما كانت الرسل تعدهم من سطوة الله؟ .

قيل : ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوله وآخره مهل ، بل كان منهم من غرق بالطوفان . فكان بين أول ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون ، وبين آخره الذي عم جميعهم هلاكه ، المدة التي لا خفاء بها على ذي عقل . ومنهم من متع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أياما ثلاثة ، كقوم صالح وأشباههم . فحينئذ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به ، وأيقنوا حقيقة نزول سطوة الله بهم ، دعوا : ( يا ويلنا إنا كنا ظالمين ) ، فلم يك ينفعهم إيمانهم مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم . فحذر ربنا جل ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله ، ما حل بمن كان قبلهم من الأمم إذ عصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية