صفحة جزء
[ ص: 490 ] القول في تأويل قوله ( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ( 57 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، هو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته .

و " النشر " بفتح " النون " وسكون " الشين " ، في كلام العرب ، من الرياح ، الطيبة اللينة الهبوب ، التي تنشئ السحاب . وكذلك كل ريح طيبة عندهم فهي " نشر " ، ومنه قول امرئ القيس :


كأن المدام وصوب الغمام وريح الخزامى ونشر القطر



وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين ، خلا عاصم بن أبي النجود ، فإنه كان يقرؤه : " بشرا " على اختلاف عنه فيه . [ ص: 491 ]

فروى ذلك بعضهم عنه : ( بشرا ) ، بالباء وضمها ، وسكون الشين .

وبعضهم ، بالباء وضمها وضم الشين .

وكان يتأول في قراءته ذلك كذلك قوله : ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) [ سورة الروم : 46 ] ، تبشر بالمطر ، وأنه جمع " بشير " يبشر بالمطر ، جمع " بشرا " ، كما يجمع " النذير " " نذرا " .

وأما قرأة المدينة وعامة المكيين والبصريين ، فإنهم قرؤوا ذلك : ( وهو الذي يرسل الرياح نشرا ) ، بضم " النون " ، و " الشين " بمعنى جمع " نشور " جمع " نشرا " ، كما يجمع " الصبور " " صبرا " ، و " الشكور " " شكرا " .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : معناها إذا قرئت كذلك : أنها الريح التي تهب من كل ناحية ، وتجيء من كل وجه .

وكان بعضهم يقول : إذا قرئت بضم النون ، فينبغي أن تسكن شينها ، لأن ذلك لغة بمعنى " النشر " بالفتح . وقال : العرب تضم النون من " النشر " أحيانا ، وتفتح أحيانا بمعنى واحد . قال : فاختلاف القرأة في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه . وكان يقول : هو نظير " الخسف " ، " والخسف " ، بفتح الخاء وضمها .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن قراءة من قرأ ذلك : ( نشرا ) و ( نشرا ) ، بفتح " النون " وسكون " الشين " ، وبضم " النون " و " الشين " قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار . [ ص: 492 ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فلا أحب القراءة بها ، وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في المعنى والإعراب ، لما ذكرنا من العلة .

وأما قوله : " بين يدي رحمته " ، فإنه يقول : قدام رحمته وأمامها .

والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه : " جاء بين يديه " ، لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم ، وكثر استعماله فيهم ، حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يد له .

و " الرحمة " التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع ، المطر .

فمعنى الكلام إذا : والله الذي يرسل الرياح لينا هبوبها ، طيبا نسيمها ، أمام غيثه الذي يسوقه بها إلى خلقه ، فينشئ بها سحابا ثقالا حتى إذا أقلتها و " الإقلال " بها ، حملها ، كما يقال : " استقل البعير بحمله " ، و " أقله " ، إذا حمله فقام به ، ساقه الله لإحياء بلد ميت ، قد تعفت مزارعه ، ودرست مشاربه ، وأجدب أهله ، فأنزل به المطر ، وأخرج به من كل الثمرات .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

14782 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، [ ص: 493 ] حدثنا أسباط ، عن السدي : " وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته " إلى قوله : " لعلكم تذكرون " ، قال : إن الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين ، طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان ، فيخرجه من ثم ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء ، ثم يفتح أبواب السماء ، فيسيل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك . وأما " رحمته " ، فهو المطر .

وأما قوله : " كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون " ، فإنه يقول تعالى ذكره : كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب ، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقحوط أهله ، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياء بعد فنائهم ودروس آثارهم " لعلكم تذكرون " ، يقول تعالى ذكره للمشركين به من عبدة الأصنام ، المكذبين بالبعث بعد الممات ، المنكرين للثواب والعقاب : ضربت لكم ، أيها القوم ، هذا المثل الذي ذكرت لكم : من إحياء البلد الميت بقطر المطر الذي يأتي به السحاب الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها ، لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن من كان ذلك من قدرته ، فيسير في قدرته إحياء الموتى بعد فنائها ، وإعادتها خلقا سويا بعد دروسها .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

14783 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون " ، وكذلك تخرجون ، وكذلك النشور ، كما نخرج الزرع بالماء .

14784 - وقال أبو هريرة : إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى ، أمطر [ ص: 494 ] عليهم من ماء تحت العرش يدعى " ماء الحيوان " أربعين سنة ، فينبتون كما ينبت الزرع من الماء . حتى إذا استكملت أجسادهم ، نفخ فيهم الروح ، ثم تلقى عليهم نومة ، فينامون في قبورهم . فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا ، وهم يجدون طعم النوم في رءوسهم وأعينهم ، كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه ، فعند ذلك يقولون : ( يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ) ، فناداهم المنادي : ( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) [ سورة يس : 52 ] .

14785 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " كذلك نخرج الموتى " ، قال : إذا أراد الله أن يخرج الموتى ، أمطر السماء حتى تتشقق عنهم الأرض ، ثم يرسل الأرواح ، فتعود كل روح إلى جسدها ، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض .

التالي السابق


الخدمات العلمية