صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ( 11 ) إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ولتطمئن به قلوبكم " ، " إذ يغشيكم النعاس " ، ويعني بقوله : ( يغشيكم النعاس ) ، يلقي عليكم النعاس ( أمنة ) يقول : أمانا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم ، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل .

15758 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله قال : النعاس في القتال ، أمنة من الله عز وجل ، وفي الصلاة من الشيطان .

15759 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري في قوله : " يغشاكم النعاس أمنة منه " ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، بنحوه ، قال : قال عبد الله ، فذكر مثله .

15760 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بنحوه . [ ص: 420 ]

و" الأمنة " مصدر من قول القائل : " أمنت من كذا أمنة ، وأمانا ، وأمنا " وكل ذلك بمعنى واحد .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

15761 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أمنة منه ) ، أمانا من الله عز وجل .

15762 - . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أمنة ) ، قال : أمنا من الله .

15763 - حدثني يونس قال ، حدثنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قوله : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) ، قال : أنزل الله عز وجل النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أحد . فقرأ : ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ) [ سورة آل عمران : 154 ] .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " ،

فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة : " يغشيكم النعاس " بضم الياء وتخفيف الشين ، ونصب " النعاس " ، من : " أغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم " .

وقرأته عامة قرأة الكوفيين : ( يغشيكم ) ، بضم الياء وتشديد الشين ، من : " غشاهم الله النعاس فهو يغشيهم " .

وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : " يغشاكم النعاس " ، بفتح الياء ورفع " النعاس " ، بمعنى : " غشيهم النعاس فهو يغشاهم " . [ ص: 421 ]

واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في " آل عمران " : ( يغشى طائفة ) [ سورة آل عمران : 154 ] .

قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب : ( إذ يغشيكم ) ، على ما ذكرت من قراءة الكوفيين ، لإجماع جميع القراء على قراءة قوله : ( وينزل عليكم من السماء ماء ) ، بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عز وجل ، فكذلك الواجب أن يكون كذلك ( يغشيكم ) ، إذ كان قوله : ( وينزل ) ، عطفا على " يغشي " ، ليكون الكلام متسقا على نحو واحد .

وأما قوله عز وجل : ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر ليطهر به المؤمنين لصلاتهم ، لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مجنبين على غير ماء . فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا ، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء ، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر . فذلك ربطه على قلوبهم ، وتقويته أسبابهم ، وتثبيته بذلك المطر أقدامهم ، لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملة ميثاء ، فلبدها المطر ، حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها ، توطئة من الله عز وجل لنبيه عليه السلام وأوليائه ، أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم .

وبمثل الذي قلنا تتابعت الأخبار عن [ أصحاب ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من أهل العلم . [ ص: 422 ]

ذكر الأخبار الواردة بذلك :

15764 - حدثنا هارون بن إسحاق قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن علي رضي الله عنه قال : أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر ، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ! " فلما أن طلع الفجر ، نادى : " الصلاة عباد الله ! " ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرض على القتال .

15765 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب : ( ماء ليطهركم به ) ، قال : طش يوم بدر .

15766 - حدثني الحسن بن يزيد قال ، حدثنا حفص ، عن داود ، عن سعيد ، بنحوه . [ ص: 423 ]

15767 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب ، قالا طش يوم بدر .

15768 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الآية : ( ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان ) ، قالا طش كان يوم بدر ، فثبت الله به الأقدام .

15769 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " الآية ، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذ حتى سال الوادي ماء ، واقتتلوا على كثيب أعفر ، فلبده الله بالماء ، وشرب المسلمون وتوضأوا وسقوا ، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان .

15770 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال ، نزل النبي صلى الله عليه وسلم يعني : حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة ، فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وثبت [ ص: 424 ] الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم ، وأمد الله نبيه بألف من الملائكة ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة .

15771 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " إلى قوله : ( ويثبت به الأقدام ) ، وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المسلمون ، وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهورا ، وثبت الأقدام . وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة ، فبعث الله عليها المطر ، فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام .

15772 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر فنزلوا عليه ، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تلقاء البحر ، فانطلقوا . قال : فنزلوا على أعلى الوادي ، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله . فكان الرجل من أصحاب محمد عليه السلام يجنب فلا يقدر على الماء ، فيصلي جنبا ، فألقى الشيطان في قلوبهم فقال : كيف ترجون أن تظهروا عليهم ، وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبا على غير وضوء ! ، قال : فأرسل الله عليهم المطر ، فاغتسلوا وتوضأوا وشربوا ، واشتدت لهم الأرض ، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم ، فاشتدت لهم من المطر ، واشتدوا عليها . [ ص: 425 ]

15773 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : غلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء ، فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين ، وكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، فقال : تزعمون أن فيكم نبيا ، وأنكم أولياء الله ، وقد غلبتم على الماء ، وتصلون مجنبين محدثين ! قال : فأنزل الله عز وجل ماء من السماء ، فسال كل واد ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسة الشيطان .

15774 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( ماء ليطهركم به ) ، قال : المطر ، أنزله عليهم قبل النعاس ( رجز الشيطان ) ، قال : وسوسته . قال : فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .

15775 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ماء ليطهركم به ) ، أنزله عليهم قبل النعاس ، طبق بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به الأقدام .

15776 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ماء ليطهركم به ) ، قال : القطر ( ويذهب عنكم رجز الشيطان ) ، وساوسه . أطفأ بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .

15777 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن [ ص: 426 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " رجز الشيطان " ، وسوسته .

15778 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، قال : هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر ( وليذهب عنكم رجز الشيطان ) ، الذي ألقى في قلوبكم : ليس لكم بهؤلاء طاقة ! ( وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) .

15779 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) ، إلى قوله : ( ويثبت به الأقدام ) ، إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر ، وغلبوا المسلمين عليه ، فأصاب المسلمين الظمأ ، وصلوا محدثين مجنبين ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، ووسوس فيها : إنكم تزعمون أنكم أولياء الله ، وأن محمدا نبي الله ، وقد غلبتم على الماء ، وأنتم تصلون محدثين مجنبين ! فأمطر الله السماء حتى سال كل واد ، فشرب المسلمون وملأوا أسقيتهم ، وسقوا دوابهم ، واغتسلوا من الجنابة ، وثبت الله به الأقدام . وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوهم رملة لا تجوزها الدواب ، ولا يمشي فيها الماشي إلا بجهد ، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت ، وثبتت فيها الأقدام .

15780 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " ، أي : أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون ، " وينزل عليكم من السماء ماء " ، للمطر الذي أصابهم تلك الليلة ، فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء ، وخلى سبيل المؤمنين إليه ( ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) ، ليذهب عنهم شك [ ص: 427 ] الشيطان ، بتخويفه إياهم عدوهم ، واستجلاد الأرض لهم ، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوهم .

15781 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة ، وقيامهم يصلون بغير وضوء ، فقال : " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام " ، حتى تشتدون على الرمل ، وهو كهيئة الأرض .

15782 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا داود بن أبي هند قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب وقال مرة : قرأ ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، فقال سعيد : إنما هي : " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " . قال : وقال الشعبي : كان ذلك طشا يوم بدر .

وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة ، أن مجاز قوله : ( ويثبت به الأقدام ) ، ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم ، فيثبتون لعدوهم . [ ص: 428 ]

وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين ، وحسب قول خطأ أن يكون خلافا لقول من ذكرنا ، وقد بينا أقوالهم فيه ، وأن معناه : ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم .

وأما قوله : ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ) ، أنصركم ( فثبتوا الذين آمنوا ) ، يقول : قووا عزمهم ، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين .

وقد قيل : إن تثبيت الملائكة المؤمنين ، كان حضورهم حربهم معهم .

وقيل : كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم .

وقيل : كان ذلك بأن الملك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفن ! فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك ، فتقوى أنفسهم . قالوا : وذلك كان وحي الله إلى ملائكته .

وأما ابن إسحاق ، فإنه قال بما : -

15783 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فثبتوا الذين آمنوا ) ، أي : فآزروا الذين آمنوا . [ ص: 429 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية