صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( ولقد علمتم ) ، ولقد عرفتم . كقولك :

[ ص: 167 ] قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه " ، يعني عرفته ، ولم أكن أعرفه ، كما قال جل ثناؤه : ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) [ الأنفال : 60 ] ، يعني : لا تعرفونهم الله يعرفهم .

وقوله : ( الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، أي الذين تجاوزوا حدي ، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت ، وعصوا أمري .

وقد دللت - فيما مضى - على أن " الاعتداء " ، أصله تجاوز الحد في كل شيء . بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

قال أبو جعفر : وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها ، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - ما كانوا يبرمون من العقود ، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم ، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق ، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه . كالذي : -

1138 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد قال ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) يقول : ولقد عرفتم . وهذا تحذير لهم من المعصية . يقول : احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت ، إذ عصوني ، اعتدوا - يقول : اجترؤوا - في السبت . قال : لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجمعة ، [ ص: 168 ] وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة ، وأن الساعة تقوم فيها . فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا ، قبل الجمعة وسمع وأطاع ، وعرف فضلها وثبت عليها ، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم . ومن لم يفعل ذلك ، كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) . وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة ، وأخبرهم بفضلها - : يا موسى ، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها ، والسبت أفضل الأيام كلها ، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام ، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت ، وكان آخر الستة ؟ قال : وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له : كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها ، والأول أفضل ، والله واحد ، والواحد الأول أفضل ؟ فأوحى الله إلى عيسى : أن دعهم والأحد ، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا . - مما أمرهم به . فلم يفعلوا ، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم . قال : وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت - : أن دعهم والسبت ، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره ، ولا يعملوا شيئا كما قالوا . قال : فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء ، فهو قوله : ( إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ) [ الأعراف : 163 ] ، يقول : ظاهرة على الماء ، ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت ، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله : ( ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) [ الأعراف : 163 ] . ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله . فلما رأوها كذلك ، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة ، فتناول بعضهم [ ص: 169 ] منها فلم تمتنع عليه ، وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى . فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم ، عادوا ، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء ، فكثروا في ذلك ، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا . وهو قول الله جل ثناؤه : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) - يقول : لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم . يقول : إذا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام . قال : ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل . وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه . فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة ، وكذلك يفعل بمن شاء ، كما يشاء ، ويحوله كما يشاء .

1139 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : قال ابن عباس : إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة - . فخالفوا إلى السبت فعظموه ، وتركوا ما أمروا به . فلما أبوا إلا لزوم السبت ، ابتلاهم الله فيه ، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره . وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها " مدين " . فحرم الله عليهم في السبت الحيتان : صيدها وأكلها . وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم ، حتى إذا ذهب السبت ذهبن ، فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا . حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا ، حتى إذا ذهب السبت ذهبن . فكانوا كذلك ، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان ، عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت ، فخزمه بخيط ، ثم أرسله في الماء ، وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه ، ثم تركه . حتى إذا كان الغد ، جاء فأخذه - أي : إني لم آخذه في [ ص: 170 ] يوم السبت - ثم انطلق به فأكله . حتى إذا كان يوم السبت الآخر ، عاد لمثل ذلك ، ووجد الناس ريح الحيتان ، فقال أهل القرية : والله لقد وجدنا ريح الحيتان ! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل . قال : ففعلوا كما فعل ، وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة ، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق . وقالت طائفة منهم من أهل البقية : ويحكم ! اتقوا الله ! ونهوهم عما كانوا يصنعون . وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ، ولم تنه القوم عما صنعوا : ( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) لسخطنا أعمالهم - ( ولعلهم يتقون ) [ الأعراف : 164 ] ، قال ابن عباس : فبينما هم على ذلك ، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم ، وفقدوا الناس فلا يرونهم . فقال بعضهم لبعض : إن للناس لشأنا ! فانظروا ما هو ! فذهبوا ينظرون في دورهم ، فوجدوها مغلقة عليهم ، قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم ، كما يغلق الناس على أنفسهم ، فأصبحوا فيها قردة ، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد ، والمرأة بعينها وإنها لقردة ، والصبي بعينه وإنه لقرد . قال : يقول ابن عباس : فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء ، لقلنا أهلك الجميع منهم . قالوا : وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ) الآية [ الأعراف : 163 ] .

1140 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا ) [ ص: 171 ] ي : أحلت لهم الحيتان ، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . فصار القوم ثلاثة أصناف : فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية ، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله ، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية . فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه ، قال الله لهم : ( كونوا قردة خاسئين ) فصاروا قردة لها أذناب ، تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء .

1141 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، قال : نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت ، فكانت تشرع إليهم يوم السبت ، وبلوا بذلك ، فاعتدوا فاصطادوها ، فجعلهم الله قردة خاسئين .

1142 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) قال : فهم أهل " أيلة " ، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر ، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج ، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء . فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت . فذلك قوله : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) [ الأعراف : 163 ] ، فاشتهى بعضهم السمك ، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر . فإذا كان يوم السبت فتح النهر ، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة . ويريد الحوت أن يخرج ، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر ، فيمكث فيها . فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه . فجعل الرجل يشوي [ ص: 172 ] السمك ، فيجد جاره ريحه ، فيسأله فيخبره ، فيصنع مثل ما صنع جاره . حتى إذا فشا فيهم أكل السمك ، قال لهم علماؤهم : ويحكم ! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم ! فقالوا : إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه ، فقال الفقهاء : لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل . فقالوا : لا ! وعتوا أن ينتهوا . فقال بعض الذين نهوهم لبعض : ( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) [ الأعراف : 164 ] ، يقول : لم تعظونهم ، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال بعضهم : ( معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) [ الأعراف : 164 ] . فلما أبوا قال المسلمون : والله لا نساكنكم في قرية واحدة . فقسموا القرية بجدار ، ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا ، ولعنهم داود . فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم . فخرج المسلمون ذات يوم ، ولم يفتح الكفار بابهم . فلما أبطئوا عليهم ، تسور المسلمون عليهم الحائط ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ، ففتحوا عنهم ، فذهبوا في الأرض . فذلك قول الله عز وجل : ( فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) [ الأعراف : 166 ] ، فذلك حين يقول : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) [ المائدة : 78 ] ، فهم القردة .

1143 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) . قال : لم يمسخوا ، إنما هو مثل ضربه الله لهم ، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا .

1144 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن [ ص: 173 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) . قال : مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم ، كمثل الحمار يحمل أسفارا .

قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله مجاهد ، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف . وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم : ( أرنا الله جهرة ) [ النساء : 153 ] ، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم ، وأنهم عبدوا العجل ، فجعل توبتهم قتل أنفسهم ، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) [ المائدة : 24 ] فابتلاهم بالتيه . فسواء قائل قال : هم لم يمسخهم قردة ، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال : لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم ، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم . ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه ، سئل البرهان على قوله ، وعورض - فيما أنكر من ذلك - بما أقر به ، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح .

هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه . وكفى دليلا على فساد قول ، إجماعها على تخطئته .

التالي السابق


الخدمات العلمية