صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ( 28 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقروا بوحدانيته : ما المشركون إلا نجس .

واختلف أهل التأويل في معنى "النجس" ، وما السبب الذي من أجله سماهم بذلك .

فقال بعضهم : سماهم بذلك ، لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ، فقال : هم نجس ، [ ص: 191 ] ولا يقربوا المسجد الحرام لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد .

ذكر من قال ذلك :

16591 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، في قوله : ( إنما المشركون نجس ) ، : لا أعلم قتادة إلا قال : "النجس" ، الجنابة .

16592 - وبه ، عن معمر قال : وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، فقال حذيفة : يا رسول الله ، إني جنب ! فقال : إن المؤمن لا ينجس .

16593 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) ، أي : أجناب .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب .

وهذا قول روي عن ابن عباس من وجه غير حميد ، فكرهنا ذكره .

وقوله : ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، يقول للمؤمنين : فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرم . وإنما عنى بذلك منعهم من دخول الحرم ، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك .

فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه .

ذكر من قال ذلك :

16594 - حدثنا بشر ، وابن المثنى قالا : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا ابن جريج قال : قال عطاء : الحرم كله قبلة ومسجد . قال : ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ، لم يعن المسجد وحده ، إنما عنى مكة والحرم . قال ذلك غير مرة . [ ص: 192 ]

وذكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما : -

16595 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال : حدثني الوليد بن مسلم قال : حدثنا أبو عمرو : أن عمر بن عبد العزيز كتب : "أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين" ، وأتبع في نهيه قول الله : ( إنما المشركون نجس ) .

16596 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن : ( إنما المشركون نجس ) ، قال : لا تصافحوهم ، فمن صافحهم فليتوضأ .

وأما قوله : ( بعد عامهم هذا ) ، فإنه يعني : بعد العام الذي نادى فيه علي - رحمة الله عليه - ببراءة ، وذلك عام حج بالناس أبو بكر ، وهي سنة تسع من الهجرة ، كما : -

16597 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر ، ونادى علي رحمة الله عليهما بالأذان ، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحج نبي الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حجة الوداع ، لم يحج قبلها ولا بعدها .

وقوله : ( وإن خفتم عيلة ) ، يقول للمؤمنين : وإن خفتم فاقة وفقرا ، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) .

يقال منه : عال يعيل عيلة وعيولا ومنه قول الشاعر :



وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

[ ص: 193 ]

وقد حكي عن بعضهم أن من العرب من يقول في الفاقة : "عال يعول" بالواو .

وذكر عن عمرو بن فائد أنه كان تأول قوله ( وإن خفتم عيلة ) ، بمعنى : وإذ خفتم . ويقول : كان القوم قد خافوا ، وذلك نحو قول القائل لأبيه : "إن كنت أبي فأكرمني" ، بمعنى : إذ كنت أبي .

وإنما قيل ذلك لهم ، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم ، انقطاع تجاراتهم ، ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك ، وأمنهم الله من العيلة ، وعوضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم ، ما هو خير لهم منه ، وهو الجزية ، فقال لهم : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) ، إلى : ( صاغرون ) .

وقال قوم : بإدرار المطر عليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

16598 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، قال : من أين تأكلون ، وقد نفي المشركون وانقطعت عنهم العير! فقال الله : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله ) ، فأمرهم بقتال أهل الكتاب ، وأغناهم من فضله .

16599 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام ، ويتجرون فيه ، فلما نهوا أن يأتوا البيت ، قال المسلمون : من أين لنا طعام؟ فأنزل الله : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، فأنزل عليهم المطر ، وكثر خيرهم ، حتى ذهب عنهم المشركون .

16600 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن علي بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة : ( إنما المشركون نجس ) ، الآية ثم ذكر نحو حديث هناد ، عن أبي الأحوص .

16601 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، ومن يأتينا بالمتاع؟ فنزلت : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) .

16602 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن واقد مولى زيد بن خليدة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان المشركون يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت هذه الآية : ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله : ( عيلة ) ، قال : الفقر ( فسوف يغنيكم الله من فضله ) .

16603 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية العوفي قال : قال المسلمون : قد كنا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم ، [ ص: 195 ] فنزلت : ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله : ( من فضله ) .

16604 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي أحسبه قال : أنبأنا أبو جعفر ، عن عطية ، قال : لما قيل : ولا يحج بعد العام مشرك! قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم . قال : فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، يعني : بما فاتهم من بياعاتهم .

16605 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن يمان ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، قال : الجزية .

16606 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن يمان وأبو معاوية ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك ، قال : أخرج المشركون من مكة ، فشق ذلك على المسلمين وقالوا : كنا نصيب منهم التجارة والميرة . فأنزل الله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ،

16607 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، كان ناس من المسلمين يتألفون العير؛ فلما نزلت "براءة" بقتال المشركين حيثما ثقفوا ، وأن يقعدوا لهم كل مرصد ، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين : فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العير؟ فعلم الله من ذلك ما علم ، فقال : أطيعوني ، وامضوا لأمري ، وأطيعوا رسولي ، فإني سوف أغنيكم من فضلي ، فتوكل لهم الله بذلك .

16608 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله : ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، قال : قال المؤمنون : كنا نصيب [ ص: 196 ] من متاجر المشركين! فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله ، عوضا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام ، فهذه الآية مع أول "براءة" في القراءة ، ومع آخرها في التأويل ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، إلى قوله : ( عن يد وهم صاغرون ) ، حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك .

16609 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .

16609 م - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، شق ذلك على المسلمين ، وكانوا يأتون ببيعات ينتفع بذلك المسلمون . فأنزل الله تعالى ذكره : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، فأغناهم بهذا الخراج ، الجزية الجارية عليهم ، يأخذونها شهرا شهرا ، عاما عاما ، فليس لأحد من المشركين أن يقرب المسجد الحرام بعد عامهم بحال ، إلا صاحب الجزية ، أو عبد رجل من المسلمين .

16610 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة .

16611 - . . . . . . قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال : إلا صاحب جزية ، أو عبد لرجل من المسلمين .

16612 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال : حدثنا حجاج ، عن [ ص: 197 ] عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) ، إلا أن يكون عبدا ، أو أحدا من أهل الجزية .

16613 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، قال : أغناهم الله بالجزية الجارية شهرا فشهرا ، وعاما فعاما .

16614 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن أبي الزبير ، عن جابر : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال : لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشرك ولا ذمي .

16615 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة ) ، وذلك أن الناس قالوا : لتقطعن عنا الأسواق ، ولتهلكن التجارة ، وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق! فقال الله عز وجل : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، من وجه غير ذلك ( إن شاء ) ، إلى قوله : ( وهم صاغرون ) ، ففي هذا عوض مما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية .

وأما قوله : ( إن الله عليم حكيم ) ، فإن معناه : ( إن الله عليم ) ، بما حدثتكم به أنفسكم ، أيها المؤمنون ، من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا [ ص: 198 ] المسجد الحرام ، وغير ذلك من مصالح عباده ( حكيم ) ، في تدبيره إياهم ، وتدبير جميع خلقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية