صفحة جزء
[ ص: 278 ] القول في تأويل قوله ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ( 47 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لو خرج ، أيها المؤمنون ، فيكم هؤلاء المنافقون ( ما زادوكم إلا خبالا ) ، يقول : لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادا وضرا ، ولذلك ثبطتهم عن الخروج معكم .

وقد بينا معنى "الخبال" ، بشواهده فيما مضى قبل .

( ولأوضعوا خلالكم ) ، يقول : ولأسرعوا بركائبهم السير بينكم .

وأصله من "إيضاع الخيل والركاب" ، وهو الإسراع بها في السير ، يقال للناقة إذا أسرعت السير : "وضعت الناقة تضع وضعا وموضوعا" ، و"أوضعها صاحبها" ، إذا جد بها وأسرع ، "يوضعها إيضاعا" ، ومنه قول الراجز :



يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع

[ ص: 279 ]

وأما أصل "الخلال" ، فهو من "الخلل" ، وهي الفرج تكون بين القوم ، في الصفوف وغيرها . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " تراصوا في الصفوف لا يتخللكم [ الشياطين ، كأنها ] أولاد الحذف " .

وأما قوله : ( يبغونكم الفتنة ) ، فإن معنى : "يبغونكم الفتنة" ، يطلبون لكم ما تفتنون به ، عن مخرجكم في مغزاكم ، بتثبيطهم إياكم عنه .

يقال منه : "بغيته الشر" ، و" بغيته الخير" "أبغيه بغاء" ، إذا التمسته له ، بمعنى : "بغيت له" ، وكذلك "عكمتك" و"حلبتك" ، بمعنى : "حلبت لك" ، و"عكمت لك" ، وإذا أرادوا : أعنتك على التماسه وطلبه ، قالوا : "أبغيتك كذا" ، و"أحلبتك" ، و"أعكمتك" ، أي : أعنتك عليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

16771 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن [ ص: 280 ] معمر ، عن قتادة : ( ولأوضعوا خلالكم ) ، بينكم ( يبغونكم الفتنة ) ، بذلك .

16772 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ولأوضعوا خلالكم ) ، يقول : [ ولأوضعوا بينكم ] ، خلالكم بالفتنة .

16773 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) ، يبطئونكم قال : رفاعة بن التابوت ، وعبد الله بن أبي بن سلول ، وأوس بن قيظي .

16774 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : ( ولأوضعوا خلالكم ) ، قال : لأسرعوا الأزقة ( خلالكم يبغونكم الفتنة ) ، يبطئونكم عبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن تابوت ، وعبد الله بن أبي بن سلول .

16775 - . . . . . . قال حدثنا الحسين قال : حدثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : ( ولأوضعوا خلالكم ) ، قال : لأسرعوا خلالكم يبغونكم الفتنة بذلك .

16776 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) ، قال : هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك . يسلي الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال : وما يحزنكم؟ ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) ، ! يقولون : "قد جمع لكم ، وفعل وفعل ، يخذلونكم" ( ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) : الكفر . [ ص: 281 ]

وأما قوله : ( وفيكم سماعون لهم ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

فقال بعضهم : معنى ذلك : وفيكم سماعون لحديثكم لهم ، يؤدونه إليهم ، عيون لهم عليكم .

ذكر من قال ذلك :

16777 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وفيكم سماعون لهم ) ، يحدثون أحاديثكم ، عيون غير منافقين .

16778 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وفيكم سماعون لهم ) ، قال : محدثون ، عيون ، غير المنافقين .

16779 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( وفيكم سماعون لهم ) ، يسمعون ما يؤدونه لعدوكم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفيكم من يسمع كلامهم ويطيع لهم .

ذكر من قال ذلك :

16780 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وفيكم سماعون لهم ) ، وفيكم من يسمع كلامهم .

16781 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان الذين استأذنوا ، فيما بلغني من ذوي الشرف ، منهم عبد الله بن أبي بن سلول ، والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم : أن يخرجوا معهم ، فيفسدوا عليه جنده . وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : ( وفيكم سماعون لهم ) . [ ص: 282 ]

قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل : وفيكم أهل سمع وطاعة منكم ، لو صحبوكم أفسدوهم عليكم ، بتثبيطهم إياهم عن السير معكم .

وأما على التأويل الأول ، فإن معناه : وفيكم منهم سماعون يسمعون حديثكم لهم ، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم ، عيون لهم عليكم .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب ، تأويل من قال : معناه : "وفيكم سماعون لحديثكم لهم ، يبلغونه عنكم ، عيون لهم" ، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم : "سماع" ، وصف من وصف به أنه سماع للكلام ، كما قال الله - جل ثناؤه - في غير موضع من كتابه : ( سماعون للكذب ) [ سورة المائدة : 41 ] ، واصفا بذلك قوما بسماع الكذب من الحديث . وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه : "له سامع ومطيع" ، ولا تكاد تقول : "هو له سماع مطيع" .

وأما قوله : ( والله عليم بالظالمين ) ، فإن معناه : والله ذو علم بمن يوجه أفعاله إلى غير وجوهها ، ويضعها في غير مواضعها ، ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر ، ومن يستأذنه شكا في الإسلام ونفاقا ، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين ، ومن يسمعه ليسر بما سر به المؤمنون ، ويساء بما ساءهم ، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم .

وقد بينا معنى "الظلم" في غير موضع من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية