صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( " 79 979 " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ( 79 ) )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : الذين يلمزون المطوعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة ، بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم ، ويطعنون فيها عليهم [ ص: 382 ] بقولهم : " إنما تصدقوا به رياء وسمعة ، ولم يريدوا وجه الله " ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدقون به إلا جهدهم ، وذلك طاقتهم ، فينتقصونهم ويقولون : " لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيا " سخرية منهم بهم ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) .

وقد بينا صفة " سخرية الله " بمن يسخر به من خلقه في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته هاهنا .

( ولهم عذاب أليم ) يقول : ولهم من عند الله يوم القيامة عذاب موجع مؤلم .

وذكر أن المعني بقوله : ( المطوعين من المؤمنين ) عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي الأنصاري وأن المعني بقوله : ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف .

ذكر من قال ذلك :

17003 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع .

[ ص: 383 ] 17004 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم : أن أجمعوا صدقاتكم ، فجمع الناس صدقاتهم . ثم جاء رجل من آخرهم بمن من تمر . فقال : يا رسول الله ، هذا صاع من تمر ، بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما ، وأتيتك بالآخر . فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينثره في الصدقات . فسخر منه رجال وقالوا : والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا ، وما يصنعان بصاعك من شيء " . ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة ، قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات ؟ فقال : لا ، فقال عبد الرحمن بن عوف : إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات . فقال له عمر بن الخطاب : أمجنون أنت ؟ فقال : ليس بي جنون ! فقال : فعلمنا ما قلت ؟ قال : نعم . مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت . وكره المنافقون فقالوا : " والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء " . وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا . فأنزل الله عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال الله في كتابه : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآية . [ ص: 384 ] 17005 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف ، فلمزه المنافقون وقالوا : " راءى " ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) قال : رجل من الأنصار آجر نفسه بصاع من تمر لم يكن له غيره ، فجاء به فلمزوه ، وقالوا : كان الله غنيا عن صاع هذا .

17006 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه .

17007 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه .

17008 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) الآية ، قال : أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله ، فتقرب به إلى الله ، فلمزه المنافقون فقالوا : ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة . فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له " حبحاب أبو عقيل " [ ص: 385 ] فقال : يا نبي الله ، بت أجر الجرير على صاعين من تمر ، أما صاع فأمسكته لأهلي ، وأما صاع فها هو ذا . فقال المنافقون : " والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا " . فأنزل الله في ذلك القرآن : ( الذين يلمزون ) الآية .

17009 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) قال : تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله ، وكان ماله ثمانية آلاف دينار ، فتصدق بأربعة آلاف دينار ، فقال ناس من المنافقين : إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء . فقال الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) وكان لرجل صاعان من تمر ، فجاء بأحدهما ، فقال ناس من المنافقين : إن [ ص: 386 ] كان الله عن صاع هذا لغنيا ! فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم . فقال الله : ( والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .

17010 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال : حدثنا أبو عوانة عن [ عمر بن ] أبي سلمة عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : تصدقوا ، فإني أريد أن أبعث بعثا . قال : فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ، إن عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما الله ، وألفين لعيالي . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت . فقال رجل من الأنصار : وإن عندي صاعين من تمر ، صاعا لربي ، وصاعا لعيالي . قال : فلمز المنافقون وقالوا : ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياء . وقالوا : أولم يكن الله غنيا عن صاع هذا ؟ ! فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين ) إلى آخر الآية .

17011 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن [ ص: 387 ] بن سعد قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) قال : أصاب الناس جهد شديد ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدقوا ، فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم بارك له فيما أمسك . فقال المنافقون : ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة . قال : وجاء رجل بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين ، فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي ، وجئت بصاع من تمر . فقال المنافقون : إن الله غني عن صاع هذا . فأنزل الله هذه الآية : ( والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .

17012 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآية ، وكان المطوعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف دينار وعاصم بن عدي أخا بني العجلان ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في الصدقة ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف درهم ، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده : أبو عقيل - أخو بني أنيف - الأراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل . [ ص: 388 ] 17013 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال : حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن أبي مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل قال أبو النعمان : كنا نعمل . قال : فجاء رجل فتصدق بشيء كثير . قال : وجاء رجل فتصدق بصاع تمر ، فقالوا : إن الله لغني عن صاع هذا . فنزلت : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) .

17014 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا زيد بن حباب عن موسى بن عبيدة قال : حدثني خالد بن يسار عن ابن أبي عقيل عن أبيه قال : بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به ، وجئت بالآخر أتقرب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فقال : انثره في الصدقة . فسخر المنافقون منه . وقالوا : [ ص: 389 ] لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين . فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآيتين .

17015 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا الجريري عن أبي السليل قال : وقف على الحي رجل ، فقال : حدثني أبي أو عمي فقال : شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة ؟ قال : وعلي عمامة لي . قال : فنزعت لوثا أو لوثين لأتصدق بهما ، قال : ثم أدركني ما يدرك ابن آدم ، فعصبت بها رأسي . قال : فجاء [ ص: 390 ] رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصر قمة ، ولا أشد سوادا ، ولا أدم بعين منه ، يقود ناقة لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها . قال : أصدقة هي يا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : فدونكها ، فألقى بخطامها أو بزمامها . قال : فلمزه رجل جالس فقال : والله إنه ليتصدق بها ، ولهي خير منه ، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : بل هو خير منك ومنها . يقول ذلك ثلاثا - صلى الله عليه وسلم - .

17016 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك يقول : الذي تصدق بصاع التمر فلمزه المنافقون : " أبو خيثمة الأنصاري " . [ ص: 391 ] 17017 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال : حدثنا عامر بن يساف اليمامي عن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بأربعة آلاف ، فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت . وجاء رجل آخر فقال : يا رسول الله ، بت الليلة أجر الماء على صاعين ، فأما أحدهما فتركت لعيالي وأما الآخر فجئتك به أجعله في سبيل الله ، فقال : بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت . فقال ناس من المنافقين : والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة ، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع فلان ، فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) يعني عبد الرحمن بن عوف : ( والذين لا يجدون إلا جهدهم ) يعني صاحب الصاع ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) .

17018 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم ، وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف ، فقال : هذا مالي أقرضه الله ، وقد بقي لي مثله . فقال له : بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت . فقال المنافقون : ما أعطى إلا رياء ، وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء ، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا . وما يصنع الله بصاع من شيء " . [ ص: 392 ] 17019 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) إلى قوله : ( ولهم عذاب أليم ) قال : أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - المسلمين أن يتصدقوا ، فقام عمر بن الخطاب : فألفى ذلك مالي وافرا ، فآخذ نصفه .

قال : فجئت أحمل مالا كثيرا . فقال له رجل من المنافقين : ترائي يا عمر ؟ فقال : نعم ، أرائي الله ورسوله ، وأما غيرهما فلا . قال : ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء ، فواجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته ، فترك صاعا لعياله ، وجاء بصاع يحمله ، فقال له بعض المنافقين : إن الله ورسوله عن صاعك لغنيان . فذلك قول الله تبارك وتعالى : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) هذا الأنصاري ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )
.

وقد بينا معنى " اللمز " في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى .

وأما قوله : ( المطوعين ) فإن معناه : المتطوعين ، أدغمت التاء في [ ص: 393 ] الطاء ، فصارت طاء مشددة ، كما قيل : " ومن يطوع خيرا " . [ سورة البقرة : 158 ] يعني : يتطوع .

وأما " الجهد " فإن للعرب فيه لغتين . يقال : " أعطاني من جهده " بضم الجيم ، وذلك - فيما ذكر - لغة أهل الحجاز ومن " جهده " بفتح الجيم ، وذلك لغة نجد .

وعلى الضم قراءة الأمصار ، وذلك هو الاختيار عندنا ؛ لإجماع الحجة من القرأة عليه .

وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية ، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد ، وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه ، كما اختلفت لغاتهم في " الوجد " " والوجد " بالضم والفتح من : " وجدت " .

وروي عن الشعبي في ذلك ما : -

17020 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة عن الشعبي قال : " الجهد " " والجهد " الجهد في العمل ، والجهد في القوت .

17021 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص عن عيسى بن المغيرة عن الشعبي مثله . [ ص: 394 ] 17022 - . . . . . . قال : حدثنا ابن إدريس عن عيسى بن المغيرة عن الشعبي قال : الجهد في العمل ، والجهد في القيتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية