صفحة جزء
[ ص: 446 ] القول في تأويل قوله : ( " 102 9102 " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ( 102 ) )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق ، ومنهم " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " يقول : أقروا بذنوبهم ( خلطوا عملا صالحا ) يعني - جل ثناؤه - بالعمل الصالح - الذي خلطوه بالعمل السيئ - اعترافهم بذنوبهم ، وتوبتهم منها . والآخر السيئ هو تخلفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج غازيا ، وتركهم الجهاد مع المسلمين .

فإن قال قائل : وكيف قيل : ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) وإنما الكلام : خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ ؟

قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك .

فكان بعض نحويي البصرة يقول : قيل ذلك كذلك ، وجائز في العربية أن يكون " بآخر " كما تقول " استوى الماء والخشبة " أي : بالخشبة " وخلطت الماء واللبن " .

وأنكر آخر أن يكون نظير قولهم " استوى الماء والخشبة " . واعتل في ذلك بأن الفعل في " الخلط " عامل في الأول والثاني ، وجائز تقديم كل واحد منهما على صاحبه ، وأن تقديم " الخشبة " على " الماء " غير جائز في قولهم : " استوى الماء والخشبة " وكان ذلك عندهم دليلا على مخالفة ذلك " الخلط " . [ ص: 447 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي : أنه بمعنى قولهم : " خلطت الماء واللبن " بمعنى : خلطته باللبن .

" عسى الله أن يتوب عليهم " يقول : لعل الله أن يتوب عليهم " وعسى " من الله واجب . وإنما معناه : سيتوب الله عليهم ، ولكنه في كلام العرب على ما وصفت " إن الله غفور رحيم " يقول : إن الله ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه ، وساتر له عليها " رحيم " به أن يعذبه بها .

وقد اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية ، والسبب الذي من أجله أنزلت فيه .

فقال بعضهم : نزلت في عشرة أنفس كانوا تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك منهم أبو لبابة . فربط سبعة منهم أنفسهم إلى السواري عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - توبة منهم من ذنبهم .

ذكر من قال ذلك :

17136 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) قال : كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فلما حضر رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، فكان ممر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع في المسجد عليهم . [ ص: 448 ] فلما رآهم قال : " من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري ؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله ، [ وحلفوا لا يطلقهم أحد ] حتى تطلقهم وتعذرهم . فقال النبي - عليه السلام - : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين . فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا . فأنزل الله تبارك وتعالى : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ) " وعسى " من الله واجب . فلما نزلت أرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطلقهم وعذرهم .

وقال آخرون : بل كانوا ستة ، أحدهم أبو لبابة .

ذكر من قال ذلك :

17137 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ) إلى قوله : ( إن الله غفور رحيم ) ، ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا غزوة تبوك ، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا ، وأيقنوا بالهلكة ، وقالوا : " نكون في الكن والطمأنينة مع النساء ، ورسول الله والمؤمنون معه في الجهاد ؟ ! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو يطلقنا ويعذرنا . فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد ، وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم . فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 449 ] من غزوته ، وكان طريقه في المسجد ، فمر عليهم فقال : من هؤلاء الموثقو أنفسهم بالسواري ؟ فقالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له ، تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم ، وقد اعترفوا بذنوبهم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم ، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو يعذرهم ، وقد تخلفوا عني ورغبوا بأنفسهم عن غزو المسلمين وجهادهم . فأنزل الله برحمته : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) " وعسى " من الله واجب فلما نزلت الآية أطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعذرهم ، وتجاوز عنهم .

وقال آخرون : الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية .

ذكر من قال ذلك :

17138 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب عن زيد بن أسلم : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) قال : هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري . منهم كردم ومرداس وأبو لبابة .

17139 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير عن يعقوب عن جعفر عن سعيد قال : الذين ربطوا أنفسهم بالسواري : هلال وأبو لبابة وكردم ومرداس وأبو قيس .

وقال آخرون : كانوا سبعة .

ذكر من قال ذلك :

17140 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة [ ص: 450 ] قوله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ) ذكر لنا أنهم كانوا سبعة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك ، فأما أربعة فخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا : جد بن قيس وأبو لبابة وحرام وأوس ، وكلهم من الأنصار وهم الذين قيل فيهم : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ) الآية .

17141 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) قال : هم نفر ممن تخلف عن تبوك . منهم : أبو لبابة ومنهم جد بن قيس تيب عليهم قال قتادة : وليسوا بثلاثة .

17142 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) قال : هم سبعة منهم : أبو لبابة كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك ، وليسوا بالثلاثة .

17143 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) نزلت في أبي لبابة وأصحابه ، تخلفوا عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته ، وكان قريبا من المدينة ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا : " نكون في الظلال والأطعمة والنساء ، ونبي الله في الجهاد واللأواء . والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يطلقنا ويعذرنا . وأوثقوا أنفسهم ، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسواري . فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته ، فمر في المسجد ، وكان طريقه فأبصرهم ، فسأل عنهم ، فقيل له : أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبي الله ، فصنعوا بأنفسهم [ ص: 451 ] ما ترى ، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم . فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم ، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله ، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين . فأنزل الله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) إلى : ( عسى الله أن يتوب عليهم ) " وعسى " من الله واجب فأطلقهم نبي الله وعذرهم .

وقال آخرون : بل عني بهذه الآية أبو لبابة خاصة ، وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه فيه ، ما كان من أمره في بني قريظة .

ذكر من قال ذلك :

17144 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن نمير عن ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) قال : نزلت في أبي لبابة قال لبني قريظة ما قال .

17145 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) قال : أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال : أشار إلى حلقه : إن محمدا ذابحكم إن نزلتم على حكم الله .

17146 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) فذكر نحوه ، إلا أنه قال : إن نزلتم على حكمه .

17147 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير عن ليث ، عن مجاهد : ربط أبو لبابة نفسه إلى سارية فقال : لا أحل نفسي حتى يحلني الله ورسوله . قال : فحله النبي - صلى الله عليه وسلم - : وفيه أنزلت هذه الآية : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا ) [ ص: 452 ] الآية .

17148 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا المحاربي عن ليث عن مجاهد : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) قال : نزلت في أبي لبابة .

وقال آخرون : بل نزلت في أبي لبابة بسبب تخلفه عن تبوك .

ذكر من قال ذلك :

17149 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : قال الزهري : كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فربط نفسه بسارية فقال : والله لا أحل نفسي منها ، ولا أذوق طعاما ولا شرابا ، حتى أموت أو يتوب الله علي . فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا ، حتى خر مغشيا عليه . قال : ثم تاب الله عليه ، ثم قيل له : قد تيب عليك يا أبا لبابة . فقال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو يحلني . قال : فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فحله بيده . ثم قال أبو لبابة : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله . قال : يجزيك يا أبا لبابة الثلث .

وقال بعضهم : عني بهذه الآية الأعراب .

ذكر من قال ذلك :

17150 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) قال : فقال إنهم من الأعراب .

17151 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون عن حجاج بن أبي زينب قال : سمعت أبا عثمان يقول : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه [ ص: 453 ] الأمة من قوله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) إلى : ( إن الله غفور رحيم ) .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركهم الجهاد معه ، والخروج لغزو الروم حين شخص إلى تبوك وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة أحدهم أبو لبابة .

وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب في ذلك ؛ لأن الله - جل ثناؤه - قال : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم ، ولم يكن المعترف بذنبه الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة غير أبي لبابة وحده . فإذ كان ذلك [ كذلك ] ، وكان الله - تبارك وتعالى - قد وصف في قوله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) بالاعتراف بذنوبهم جماعة علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست الواحد ، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة - وكان لا جماعة فعلت ذلك في ما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك - صح ما قلنا في ذلك . وقلنا : " كان منهم أبو لبابة " ؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية