1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة البقرة
  4. القول في تأويل قوله تعالى " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون "
صفحة جزء
[ ص: 203 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ( 70 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( قالوا ) قال قوم موسى - الذين أمروا بذبح البقرة - لموسى . فترك ذكر موسى ، وذكر عائد ذكره ، اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام . وذلك أن معنى الكلام : قالوا له : " ادع ربك " . فلم يذكر " له " لما وصفنا .

وقوله : ( يبين لنا ما هي ) ، خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة . وذلك أنهم لو كانوا إذ أمروا بذبح البقرة ، ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة ، كانت عنهم مجزئة ، ولم يكن عليهم غيرها ، لأنهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة . فلما سألوا بيانها بأي صفة هي ، بين لهم أنها بسن من الأسنان دون سن سائر الأسنان ، فقيل لهم : هي عوان بين الفارض والبكر والضرع . فكانوا - إذ بينت لهم سنها - لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم ، كانت عنهم مجزئة ، لأنهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حدت لهم ، ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون . فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها ، مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الأرض ، فشددوا على أنفسهم - شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه . ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته : -

1234 - " ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بشيء فأتوه ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم " . [ ص: 204 ] قال أبو جعفر : ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا ، زادهم الله عقوبة وتشديدا ، كما : -

1235 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام بن علي ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها ، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم .

1236 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم .

1237 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر عن أيوب -

1238 - وحدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن هشام بن حسان جميعا ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني قال : سألوا وشددوا فشدد الله عليهم .

1239 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : لو أخذ بنو إسرائيل بقرة [ ص: 205 ] لأجزأت عنهم . ولولا قولهم : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، لما وجدوها .

1240 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، لو أخذوا بقرة ما كانت ، لأجزأت عنهم . ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر ) ، قال : لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم . ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ) ، قال : لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم . ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر ) الآية .

1241 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، وزاد فيه : ولكنهم شددوا فشدد عليهم .

1242 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثتي حجاج قال ، قال ابن جريج قال ، مجاهد : " لو أخذوا بقرة ما كانت أجزأت عنهم . قال ابن جريج ، قال لي عطاء : لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم . قال ابن جريج ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أمروا بأدنى بقرة ، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم ; وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد " .

1243 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة ، استعرضوا [ ص: 206 ] بقرة فذبحوها لكانت إياها ، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، لما هدوا إليها أبدا .

1244 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إنما أمر القوم بأدنى بقرة ، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم . والذي نفس محمد بيده ، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد .

1245 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم .

1246 - حدثنا أبو كريب قال ، قال أبو بكر بن عياش ، قال ابن عباس : لو أن القوم نظروا أدنى بقرة - يعني بني إسرائيل - لأجزأت عنهم ، ولكن شددوا فشدد عليهم ، فاشتروها بملء جلدها دنانير .

1247 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك ، ولكن البلاء في هذه المسائل ، فقالوا : ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) ، فشدد عليهم ، فقال : ( إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ) ، فقالوا : ( ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ) ، قال : وشدد عليهم أشد من الأول ، فقرأ حتى بلغ : ( مسلمة لا شية فيها ) فأبوا أيضا فقالوا : ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ) فشدد عليهم ، فقال : ( إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها ) ، [ ص: 207 ] قال : فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها ، وهي صفراء ، ليس فيها سواد ولا بياض .

قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه - من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم ، من قولهم إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم ، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم - من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله ، فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، على العموم الظاهر ، دون الخصوص الباطن ، إلا أن يخص ، بعض ما عمه ظاهر التنزيل ، كتاب من الله أو رسول الله ، وإن التنزيل أو الرسول ، إن خص بعض ما عمه ظاهر التنزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر ، فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة ، وسائر حكم الآية على العموم ; على نحو ما قد بيناه في كتابنا كتاب الرسالة من لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام - في قولنا في العموم والخصوص ، وموافقة قولهم في ذلك قولنا ، ومذهبهم مذهبنا ، وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام ، وشهادتهم على فساد قول من قال : حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم ، ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية . فإن خص منها بعض ، فحملك الآية حينئذ على الخصوص .

وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا - ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها - رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين ، وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر - إذ أمروا بذبحها بقوله : ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، فذبحوها - كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك [ ص: 208 ] مؤدين ، وللحق مطيعين ، إذ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع ، وسن دون سن .

ورأوا مع ذلك أنهم - إذ سألوا موسى عن سنها فأخبرهم عنها ، وحصرهم منها على سن دون سن ، ونوع دون نوع ، وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها - كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية ، بعد الذي خص لهم من أنواع البقر ، من الخطأ على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسألتهم إياه المسألة الأولى .

وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الأولى والثانية ، وأن اللازم كان لهم في الحالة الأولى ، استعمال ظاهر الأمر ، وذبح أي بهيمة شاءوا مما وقع عليها اسم بقرة .

وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية استعمال ظاهر الأمر وذبح أي بهيمة شاءوا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر ، ولم يروا أن حكمهم - إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية - انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الأولى ، من استعمال ظاهر الأمر إلى الخصوص . ففي إجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك - مع الرواية التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافقة لقولهم - دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص ، وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه - فيما أمر ونهى - على العموم ، ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له . وأنه إذا خص منه شيء ، فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر ، وسائر حكم الآية على ظاهرها العام - ومؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك ، وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه . [ ص: 209 ] وقد زعم بعض من عظمت جهالته ، واشتدت حيرته ، أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر ، لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك ، كما خصت عصا موسى في معناها ، فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها .

ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا ، لسهل عليه ما استصعب من القول . وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم ، ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم . فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا ، ويتعبدهم بعبادة ، ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به ، حتى يسألوا بيان ذلك لهم ! فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه ، ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه ، فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض ، فنعوذ بالله من الحيرة ، ونسأله التوفيق والهداية .

وأما قوله : ( إن البقر تشابه علينا ) ، فإن " البقر " جماع بقرة .

وقد قرأ بعضهم : ( إن الباقر ) ، وذلك - وإن كان في الكلام جائزا ، لمجيئه في كلام العرب وأشعارها ، كما قال ميمون بن قيس :


وما ذنبه أن عافت الماء باقر وما إن تعاف الماء إلا ليضربا

[ ص: 210 ] وكما قال أمية :


ويسوقون باقر السهل للط     ود مهازيل خشية أن تبورا

- فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجيء الحجة ، بنقل من لا يجوز - عليه فيما نقلوه مجمعين عليه - الخطأ والسهو والكذب .

وأما تأويل : ( تشابه علينا ) ، فإنه يعني به التبس علينا . والقرأة مختلفة في تلاوته . فبعضهم كانوا يتلونه : " تشابه علينا " ، بتخفيف الشين ونصب الهاء على مثال " تفاعل " ، ويذكر الفعل ، وإن كان " البقر " جماعا . لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء ، وجمعه بطرح الهاء - وتأنيثه ، كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير : ( كأنهم أعجاز نخل منقعر ) [ القمر : 20 ] ، فذكر " المنقعر " وهو من صفة النخل ، لتذكير لفظ " النخل " - وقال في موضع آخر : ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ) [ الحاقة : 7 ] ، فأنث " الخاوية " وهي من صفة " النخل " - بمعنى النخل . لأنها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر - على ما وصفنا قبل - فهي جماع " نخلة " .

[ ص: 211 ] وكان بعضهم يتلوه : ( إن البقر تشابه علينا ) ، بتشديد الشين وضم الهاء ، فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث " البقر " ، كما قال : ( أعجاز نخل خاوية ) ، ويدخل في أول " تشابه " تاء تدل على تأنيثها ، ثم تدغم التاء الثانية في " شين " " تشابه " لتقارب مخرجها ومخرج " الشين " فتصير " شينا " مشددة ، وترفع " الهاء " بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب .

وكان بعضهم يتلوه : ( إن البقر يشابه علينا ) ، فيخرج " يشابه " مخرج الخبر عن الذكر ، لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك : ( تشابه ) بالتخفيف ونصب " الهاء " ، غير أنه كان يرفعه ب " الياء " التي يحدثها في أول " تشابه " التي تأتي بمعنى الاستقبال ، وتدغم " التاء " في " الشين " كما فعله القارئ في " تشابه " ب " التاء " والتشديد .

قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القراءة عندنا : ( إن البقر تشابه علينا ) ، بتخفيف " شين " " تشابه " ونصب " هائه " ، بمعنى " تفاعل " ، لإجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك ، ودفعهم ما سواه من القراءات . ولا يعترض على الحجة بقول من يجوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ .

وأما قوله : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، فإنهم عنوا : وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها . ومعنى " اهتدائهم " في هذا الموضع معنى : " تبينهم " أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر .

التالي السابق


الخدمات العلمية