صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( وإياك نستعين ) .

قال أبو جعفر : ومعنى قوله : ( وإياك نستعين ) : وإياك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها - لا أحدا سواك ، إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره معبوده الذي يعبده من الأوثان دونك ، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة .

172 - كالذي حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، [ ص: 162 ] قال : حدثني بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس : ( وإياك نستعين ) ، قال : إياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها .

فإن قال قائل : وما معنى أمر الله عباده بأن يسألوه المعونة على طاعته ؟ أوجائز ، وقد أمرهم بطاعته ، أن لا يعينهم عليها ؟ أم هل يقول قائل لربه : إياك نستعين على طاعتك ، إلا وهو على قوله ذلك معان ، وذلك هو الطاعة . فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه ؟

قيل : إن تأويل ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما الداعي ربه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه ، داع أن يعينه فيما بقي من عمره على ما كلفه من طاعته ، دون ما قد تقضى ومضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره . وجازت مسألة العبد ربه ذلك ، لأن إعطاء الله عبده ذلك - مع تمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته ، وافترض عليه من فرائضه ، فضل منه جل ثناؤه تفضل به عليه ، ولطف منه لطف له فيه . وليس في تركه التفضل على بعض عبيده بالتوفيق - مع اشتغال عبده بمعصيته ، وانصرافه عن محبته ، ولا في بسطه فضله على بعضهم ، مع إجهاد العبد نفسه في محبته ، ومسارعته إلى طاعته - فساد في تدبير ، ولا جور في حكم ، فيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله في أمره عبده بمسألته عونه على طاعته .

وفي أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة ، أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر ، الذين أحالوا أن يأمر الله أحدا من عبيده بأمر ، أو يكلفه [ ص: 163 ] فرض عمل ، إلا بعد إعطائه المعونة على فعله وعلى تركه . ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا ، لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته . إذ كان - على قولهم ، مع وجود الأمر والنهي والتكليف - حقا واجبا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه ، سأله عبده أو ترك مسألة ذلك . بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور . ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا ، لكان القائل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، إنما يسأل ربه أن لا يجور .

وفي إجماع أهل الإسلام جميعا - على تصويب قول القائل : "اللهم إنا نستعينك " ، وتخطئتهم قول القائل : "اللهم لا تجر علينا " - دليل واضح على خطأ ما قال الذين وصفت قولهم . إذ كان تأويل قول القائل عندهم : "اللهم إنا نستعينك - اللهم لا تترك معونتنا التي ترككها جور منك .

فإن قال قائل : وكيف قيل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، فقدم الخبر عن العبادة ، وأخرت مسألة المعونة عليها بعدها ؟ وإنما تكون العبادة بالمعونة ، فمسألة المعونة كانت أحق بالتقديم قبل المعان عليه من العمل ، والعبادة بها .

قيل : لما كان معلوما أن العبادة لا سبيل للعبد إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه ، وكان محالا أن يكون العبد عابدا إلا وهو على العبادة معان ، وأن يكون معانا عليها إلا وهو لها فاعل - كان سواء تقديم ما قدم منهما على صاحبه . كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إليك في قضائها : "قضيت حاجتي فأحسنت إلي " ، فقدمت ذكر قضائه حاجتك ، أو قلت : أحسنت إلي فقضيت حاجتي " ، فقدمت ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة . لأنه لا يكون قاضيا حاجتك إلا وهو إليك محسن ، ولا محسنا إليك إلا وهو لحاجتك قاض . فكذلك سواء قول القائل : اللهم إنا إياك نعبد فأعنا على عبادتك ، وقوله : اللهم أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد . [ ص: 164 ]

قال أبو جعفر : وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير ، كما قال امرؤ القيس :


ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال



يريد بذلك : كفاني قليل من المال ولم أطلب كثيرا . وذلك - من معنى التقديم والتأخير ، ومن مشابهة بيت امرئ القيس - بمعزل . من أجل أنه قد يكفيه القليل من المال ويطلب الكثير ، فليس وجود ما يكفيه منه بموجب له ترك طلب الكثير ، فيكون نظير العبادة التي بوجودها وجود المعونة عليها ، وبوجود المعونة عليها وجودها ، فيكون ذكر أحدهما دالا على الآخر ، فيعتدل في صحة الكلام تقديم ما قدم منهما قبل صاحبه ، أن يكون موضوعا في درجته ومرتبا في مرتبته .

فإن قال : فما وجه تكراره : "إياك " مع قوله : "نستعين " ، وقد تقدم ذلك قبل "نعبد " ؟ وهلا قيل : "إياك نعبد ونستعين " ، إذ كان المخبر عنه أنه المعبود ، هو المخبر عنه أنه المستعان ؟

قيل له : إن الكاف التي مع " إيا " ، هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل - أعني بقوله : "نعبد " - لو كانت مؤخرة بعد الفعل . وهي كناية اسم المخاطب المنصوب بالفعل ، فكثرت ب "إيا " متقدمة ، إذ كانت الأسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد .

فلما كانت الكاف من " إياك " هي كناية اسم المخاطب التي كانت تكون كافا وحدها متصلة بالفعل إذا كانت بعد الفعل ، ثم كان حظها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به ، فيقال : "اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونحمدك ونشكرك " ، وكان ذلك أفصح في كلام العرب من أن يقال : "اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد " - كان كذلك ، إذا قدمت كناية اسم المخاطب قبل الفعل موصولة ب "إيا " ، كان الأفصح إعادتها مع كل فعل . كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع [ ص: 165 ] كل فعل ، إذا كانت بعد الفعل متصلة به ، وإن كان ترك إعادتها جائزا .

وقد ظن بعض من لم ينعم النظر أن إعادة " إياك " مع " نستعين " ، بعد تقدمها في قوله : "إياك نعبد " ، بمعنى قول عدي بن زيد العبادي :


وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به     بين النهار وبين الليل قد فصلا



وكقول أعشى همدان :


بين الأشج وبين قيس باذخ     بخ بخ لوالده وللمولود



وذلك من قائله جهل ، من أجل أن حظ "إياك " أن تكون مكررة مع كل فعل ، لما وصفنا آنفا من العلة ، وليس ذلك حكم " بين " لأنها لا تكون - إذ اقتضت اثنين - إلا تكريرا إذا أعيدت ، إذ كانت لا تنفرد بالواحد . وأنها لو أفردت بأحد الاسمين ، في حال اقتضائها اثنين ، كان الكلام كالمستحيل . وذلك أن قائلا لو قال : "الشمس قد فصلت بين النهار " ، لكان من الكلام خلفا لنقصان الكلام عما به الحاجة إليه ، من تمامه الذي يقتضيه " بين " .

ولو قال قائل : " اللهم إياك نعبد " ، لكان ذلك كلاما تاما . فكان معلوما بذلك أن حاجة كل كلمة - كانت نظيرة " إياك نعبد " - إلى " إياك " كحاجة [ ص: 166 ] " نعبد " إليها وأن الصواب أن تكون معها " إياك " ، إذ كانت كل كلمة منها جملة خبر مبتدأ ، وبينا حكم مخالفة ذلك حكم " بين " فيما وفق بينهما الذي وصفنا قوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية