صفحة جزء
[ القول في تأويل قوله تعالى : ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون ( 19 ) ) [ ص: 1 ]

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وجاءت مارة الطريق من المسافرين ( فأرسلوا واردهم ) وهو الذي يرد المنهل والمنزل ، و"وروده إياه" ، مصيره إليه ودخوله . ( فأدلى دلوه ) يقول : أرسل دلوه في البئر .

يقال : "أدليت الدلو في البئر" إذا أرسلتها فيه ، فإذا استقيت فيها قلت : "دلوت أدلو دلوا" .

وفي الكلام محذوف ، استغني بدلالة ما ذكر عليه ، فترك ، وذلك : ( فأدلى دلوه ) فتعلق به يوسف ، فخرج ، فقال المدلي : ( يا بشرى هذا غلام ) .

وبالذي قلنا في ذلك ، جاءت الأخبار عن أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

18880 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ) فتعلق يوسف بالحبل ، [ ص: 2 ] فخرج ، فلما رآه صاحب الحبل نادى رجلا من أصحابه يقال له" بشرى " : ( يا بشرى هذا غلام ) .

18881 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ) فتشبث الغلام بالدلو ، فلما خرج قال : ( يا بشرى هذا غلام ) .

18882 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فأرسلوا واردهم ) يقول : أرسلوا رسولهم ، فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام ( قال يا بشرى هذا غلام ) .

واختلفوا في معنى قوله : ( يا بشرى هذا غلام ) .

فقال بعضهم : ذلك تبشير من المدلي دلوه أصحابه ، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبدا .

ذكر من قال ذلك :

18883 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( قال يا بشرى هذا غلام ) تباشروا به حين أخرجوه . وهي بئر بأرض بيت المقدس معلوم مكانها

18884 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( يا بشرى هذا غلام ) قال : بشرهم واردهم حين وجد يوسف .

وقال آخرون : بل ذلك اسم رجل من السيارة بعينه ، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلقا بالحبل .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 3 ]

18885 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( يا بشرى هذا غلام ) قال : نادى رجلا من أصحابه يقال له" بشرى " ، فقال : ( يا بشرى هذا غلام ) .

18886 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا خلف بن هشام ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس بن الربيع ، عن السدي ، في قوله : ( يا بشرى هذا غلام ) قال : كان اسم صاحبه" بشرى " .

18887 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، في قوله : ( يا بشرى هذا غلام ) قال : اسم الغلام" بشرى " ; قال : "يا بشرى " ، كما تقول : " يا زيد" .

واختلفت القراء في قراءة ذلك :

فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة : " يا بشري" بإثبات ياء الإضافة ، غير أنه أدغم الألف في الياء طلبا للكسرة التي تلزم ما قبل ياء الإضافة من المتكلم ، في قولهم : " غلامي" و"جاريتي" ، في كل حال ، وذلك من لغة طيئ ، كما قال أبو ذؤيب :


سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع



[ ص: 4 ] وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( يا بشرى ) بإرسال الياء وترك الإضافة .

وإذا قرئ ذلك كذلك احتمل وجهين من التأويل :

أحدهما ما قاله السدي ، وهو أن يكون اسم رجل دعاه المستقي باسمه ، كما يقال : "يا زيد " ، و "يا عمرو " ، فيكون "بشرى " في موضع رفع بالنداء .

والآخر : أن يكون أراد إضافة البشرى إلى نفسه ، فحذف الياء وهو يريدها ، فيكون مفردا وفيه نية الإضافة ، كما تفعل العرب في النداء فتقول : "يا نفس اصبري " ، و "يا نفسي اصبري " ، و "يا بني لا تفعل " ، و "يا بني لا تفعل " ، فتفرد وترفع ، وفيه نية الإضافة . وتضيف أحيانا فتكسر ، كما تقول : "يا غلام أقبل " ، و "يا غلامي أقبل " .

قال أبو جعفر : وأعجب القراءة في ذلك إلي قراءة من قرأه بإرسال الياء وتسكينها ; لأنه إن كان اسم رجل بعينه كان معروفا فيهم كما قال السدي ، فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها . وإن كان من التبشير فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بينت .

وأما التشديد والإضافة في الياء ، فقراءة شاذة ، لا أرى القراءة بها ، وإن كانت لغة معروفة ; لإجماع الحجة من القرأة على خلافها .

وأما قوله : ( وأسروه بضاعة ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

فقال بعضهم : وأسره الوارد المستقي وأصحابه من التجار الذين كانوا معهم ، وقالوا لهم : " هو بضاعة استبضعناها بعض أهل مصر " ; لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه بما اشتروه به أن يطلبوا منهم فيه الشركة .

ذكر من قال ذلك :

[ ص: 5 ] 18888 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وأسروه بضاعة ) قال : صاحب الدلو ومن معه ، قالوا لأصحابهم : "إنما استبضعناه " ، خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه . وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثق منه لا يأبق ! حتى وقفوه بمصر ، فقال : من يبتاعني ويبشر؟ فاشتراه الملك ، والملك مسلم .

18889 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه غير أنه قال : خيفة أن يستشركوهم إن علموا به ، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثقوا منه لا يأبق ! حتى واقفوه بمصر . وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو .

18890 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد

18891 - . . . . قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه غير أنه قال : خيفة أن يشاركوهم فيه ، إن علموا بثمنه .

18892 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه إلا أنه قال : خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا ثمنه . وقال أيضا : حتى أوقفوه بمصر .

18893 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( وأسروه بضاعة ) قال : لما اشتراه الرجلان فرقا من الرفقة أن يقولوا : " اشتريناه " فيسألونهم الشركة ، فقالا إن سألونا ما هذا؟ قلنا بضاعة استبضعناه أهل الماء . فذلك قوله : ( وأسروه بضاعة ) بينهم

[ ص: 6 ] وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأسره التجار بعضهم من بعض .

ذكر من قال ذلك :

18894 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : ( وأسروه بضاعة ) قال : أسره التجار بعضهم من بعض .

18895 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : ( وأسروه بضاعة ) قال : أسره التجار بعضهم من بعض .

وقال آخرون : معنى ذلك : أسروا بيعه .

ذكر من قال ذلك :

18896 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( وأسروه بضاعة ) قال : أسروا بيعه .

18897 - حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن مجاهد : ( وأسروه بضاعة ) قال : قالوا لأهل الماء : إنما هو بضاعة .

وقال آخرون : إنما عني بقوله : ( وأسروه بضاعة ) إخوة يوسف ، أنهم أسروا شأن يوسف أن يكون أخاهم ، قالوا : هو عبد لنا .

ذكر من قال ذلك :

18898 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وأسروه بضاعة ) يعني : إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم ، فكتم يوسف شأنه مخافة أن تقتله إخوته ، واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه قال : يا بشرى! هذا غلام يباع . فباعه إخوته .

[ ص: 7 ] قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب : قول من قال : "وأسر وارد القوم المدلي دلوه ومن معه من أصحابه ، من رفقته السيارة ، أمر يوسف أنهم اشتروه ، خيفة منهم أن يستشركوهم ، وقالوا لهم : هو بضاعة أبضعها معنا أهل الماء وذلك أنه عقيب الخبر عنه ، فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرا عنه ، أشبه من أن يكون خبرا عمن هو بالخبر عنه غير متصل .

وقوله : ( والله عليم بما يعملون ) يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بما يعمله باعة يوسف ومشتروه في أمره ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه ، وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرته فيه .

وهذا ، وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تذكير من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه ، يقول : فاصبر ، يا محمد ، على ما نالك في الله ، فإني قادر على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون ، كما كنت قادرا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا ، ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف علي ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته ، فكذلك تركي تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك علي ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم ، ثم يصير أمرك وأمرهم إلى علوك عليهم ، وإذعانهم لك ، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم ، وعلو يوسف عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية