صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( اهدنا ) .

قال أبو جعفر : ومعنى قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، في هذا الموضع عندنا : وفقنا للثبات عليه ، كما روي ذلك عن ابن عباس : -

173 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد صلى الله عليه : " قل ، يا محمد ، اهدنا الصراط المستقيم " . يقول : ألهمنا الطريق الهادي .

وإلهامه إياه ذلك ، هو توفيقه له ، كالذي قلنا في تأويله . ومعناه نظير معنى قوله : " إياك نستعين " ، في أنه مسألة العبد ربه التوفيق للثبات على العمل بطاعته ، وإصابة الحق والصواب فيما أمره به ونهاه عنه ، فيما يستقبل من عمره ، دون ما قد مضى من أعماله ، وتقضى فيما سلف من عمره . كما في قوله : "إياك نستعين " ، مسألة منه ربه المعونة على أداء ما قد كلفه من طاعته ، فيما بقي من عمره .

فكان معنى الكلام : اللهم إياك نعبد وحدك لا شريك لك ، مخلصين لك العبادة دون ما سواك من الآلهة والأوثان ، فأعنا على عبادتك ، ووفقنا لما [ ص: 167 ] وفقت له من أنعمت عليه من أنبيائك وأهل طاعتك ، من السبيل والمنهاج .

فإن قال قائل : وأنى وجدت الهداية في كلام العرب بمعنى التوفيق ؟

قيل له : ذلك في كلامها أكثر وأظهر من أن يحصى عدد ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد . فمن ذلك قول الشاعر :


لا تحرمني ، هداك الله ، مسألتي ولا أكونن كمن أودى به السفر



يعني به : وفقك الله لقضاء حاجتي . ومنه قول الآخر :


ولا تعجلني هداك المليك     فإن لكل مقام مقالا



فمعلوم أنه إنما أراد : وفقك الله لإصابة الحق في أمري .

ومنه قول الله جل ثناؤه : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) في غير آية من تنزيله . وقد علم بذلك ، أنه لم يعن أنه لا يبين للظالمين الواجب عليهم من فرائضه . وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه ، وقد عم بالبيان جميع المكلفين من خلقه ؟ ولكنه عنى جل وعز أنه لا يوفقهم ، ولا يشرح للحق والإيمان صدورهم .

وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله : ( اهدنا ) : زدنا هداية .

وليس يخلو هذا القول من أحد أمرين : إما أن يكون ظن قائله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمسألة الزيادة في البيان ، أو الزيادة في المعونة والتوفيق .

فإن كان ظن أنه أمر بمسألة ربه الزيادة في البيان ، فذلك ما لا وجه له; لأن الله جل ثناؤه لا يكلف عبدا فرضا من فرائضه ، إلا بعد تبيينه له وإقامة الحجة عليه به . ولو كان معنى ذلك معنى مسألته البيان ، لكان قد أمر أن يدعو ربه أن يبين له ما فرض عليه ، وذلك من الدعاء خلف ، لأنه لا يفرض فرضا إلا مبينا [ ص: 168 ] لمن فرضه عليه . أو يكون أمر أن يدعو ربه أن يفرض عليه الفرائض التي لم يفرضها .

وفي فساد وجه مسألة العبد ربه ذلك ، ما يوضح عن أن معنى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، غير معنى : بين لنا فرائضك وحدودك .

أو يكون ظن أنه أمر بمسألة ربه الزيادة في المعونة والتوفيق . فإن كان ذلك كذلك ، فلن تخلو مسألته تلك الزيادة من أن تكون مسألة للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله ، أو على ما يحدث .

وفي ارتفاع حاجة العبد إلى المعونة على ما قد تقضى من عمله ، ما يعلم أن معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألته الزيادة لما يحدث من عمله . وإذ كان ذلك كذلك ، صار الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك : من أنه مسألة العبد ربه التوفيق لأداء ما كلف من فرائضه ، فيما يستقبل من عمره .

وفي صحة ذلك ، فساد قول أهل القدر الزاعمين أن كل مأمور بأمر أو مكلف فرضا ، فقد أعطي من المعونة عليه ، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجته إلى ربه . لأنه لو كان الأمر على ما قالوا في ذلك ، لبطل معنى قول الله جل ثناؤه : ( إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم ) . وفي صحة معنى ذلك ، على ما بينا ، فساد قولهم .

وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) : أسلكنا طريق الجنة في المعاد ، أي قدمنا له وامض بنا إليه ، كما قال جل ثناؤه : ( فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) سورة الصافات : 23 ، أي أدخلوهم النار ، كما تهدى المرأة إلى زوجها ، يعني بذلك أنها تدخل إليه ، وكما تهدى الهدية إلى الرجل ، وكما تهدي الساق القدم ، نظير قول طرفة بن العبد : [ ص: 169 ]


لعبت بعدي السيول به     وجرى في رونق رهمه




للفتى عقل يعيش به     حيث تهدي ساقه قدمه



أي ترد به الموارد .

وفي قول الله جل ثناؤه ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل ، مع شهادة الحجة من المفسرين على تخطئته . وذلك أن جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمعون على أن معنى " الصراط " في هذا الموضع ، غير المعنى الذي تأوله قائل هذا القول ، وأن قوله : " إياك نستعين " مسألة العبد ربه المعونة على عبادته . فكذلك قوله " اهدنا " إنما هو مسألة الثبات على الهدى فيما بقي من عمره .

والعرب تقول : هديت فلانا الطريق ، وهديته للطريق ، وهديته إلى الطريق ، إذا أرشدته إليه وسددته له . وبكل ذلك جاء القرآن ، قال الله جل ثناؤه : ( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ) سورة الأعراف : 43 ، وقال في موضع آخر : ( اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ) سورة النحل : 121 ، وقال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) .

وكل ذلك فاش في منطقها ، موجود في كلامها ، من ذلك قول الشاعر :


أستغفر الله ذنبا لست محصيه ،     رب العباد ، إليه الوجه والعمل

[ ص: 170 ]

يريد : أستغفر الله لذنب ، كما قال جل ثناؤه : ( واستغفر لذنبك ) سورة غافر : 55 .

ومنه قول نابغة بني ذبيان :


فيصيدنا العير المدل بحضره     قبل الونى والأشعب النباحا



يريد : فيصيد لنا . وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم ، وفيما ذكرنا منه كفاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية