صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ( 12 ) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ( 13 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( هو الذي يريكم البرق ) ، يعني أن الرب هو الذي يري عباده البرق وقوله : ( هو ) كناية اسمه جل ثناؤه .

وقد بينا معنى "البرق" فيما مضى ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى [ ص: 387 ] عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله : ( خوفا ) يقول : خوفا للمسافر من أذاه . وذلك أن "البرق" الماء ، في هذا الموضع كما : -

20251 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم ، مولى ابن عباس قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن "البرق" فقال : "البرق" الماء .

وقوله : ( وطمعا ) يقول : وطمعا للمقيم أن يمطر فينتفع . كما : -

20252 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ) ، يقول : خوفا للمسافر في أسفاره ، يخاف أذاه ومشقته ( وطمعا ، ) للمقيم ، يرجو بركته ومنفعته ، ويطمع في رزق الله .

20253 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( خوفا وطمعا ) خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم .

وقوله : ( وينشئ السحاب الثقال ) : ويثير السحاب الثقال بالمطر ويبدؤه .

يقال منه : أنشأ الله السحاب : إذا أبدأه ، ونشأ السحاب : إذا بدأ ينشأ نشأ .

و "السحاب" في هذا الموضع ، وإن كان في لفظ واحد ، فإنها جمع ، واحدتها "سحابة" ولذلك قال : "الثقال" فنعتها بنعت الجمع ، ولو كان جاء : "السحاب الثقيل" كان جائزا ، وكان توحيدا للفظ السحاب ، كما قيل : [ ص: 388 ] ( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ) [ سورة يس : 80 ] .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

20254 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وينشئ السحاب الثقال ) ، قال : الذي فيه الماء .

20255 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

20256 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

20257 - . . . قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

20258 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وينشئ السحاب الثقال ) قال : الذي فيه الماء .

وقوله : ( ويسبح الرعد بحمده ) .

قال أبو جعفر : وقد بينا معنى الرعد فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد قال كما :

20259 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا كثير بن هشام قال : حدثنا جعفر قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد الشديد [ ص: 389 ] قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك" .

20260 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبي هريرة رفع الحديث : أنه كان إذا سمع الرعد قال : "سبحان من يسبح الرعد بحمده" .

20261 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا مسعدة بن اليسع الباهلي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، كان إذا سمع صوت الرعد قال : "سبحان من سبحت له" .

20262 - . . . قال : حدثنا إسماعيل ابن علية ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان إذا سمع الرعد قال : "سبحان الذي سبحت له .

20263 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا يعلى بن الحارث قال : سمعت أبا صخرة يحدث عن الأسود بن يزيد ، أنه كان إذا سمع الرعد قال : "سبحان من سبحت له . أو : "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته "

. [ ص: 390 ] 20264 - . . . قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن طاوس ، عن أبيه وعبد الكريم ، عن طاوس أنه كان إذا سمع الرعد قال : "سبحان من سبحت له .

20265 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ميسرة ، عن الأوزاعي قال : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : "سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقة .

ومعنى قوله : ( ويسبح الرعد بحمده ) ، ويعظم الله الرعد ويمجده ، فيثني عليه بصفاته ، وينزهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد ، تعالى ربنا وتقدس .

وقوله : ( من خيفته ) يقول : وتسبح الملائكة من خيفة الله ورهبته .

وأما قوله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) .

فقد بينا معنى الصاعقة ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته ، بما فيه الكفاية من الشواهد ، وذكرنا ما فيها من الرواية .

وقد اختلف فيمن أنزلت هذه الآية .

فقال بعضهم : نزلت في كافر من الكفار ذكر الله تعالى وتقدس بغير ما ينبغي ذكره به ، فأرسل عليه صاعقة أهلكته .

[ ص: 391 ] ذكر من قال ذلك :

20266 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عفان قال : حدثنا أبان بن يزيد قال : حدثنا أبو عمران الجوني ، عن عبد الرحمن بن صحار العبدي : أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جبار يدعوه ، فقال : "أرأيتم ربكم ، أذهب هو أم فضة هو أم لؤلؤ هو؟" قال : فبينما هو يجادلهم ، إذ بعث الله سحابة فرعدت ، فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه فأنزل الله هذه الآية : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

20267 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد قال : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أخبرني عن ربك من أي شيء هو ، من لؤلؤ أو من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأخذته ، فأنزل الله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

20268 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

20269 - . . . قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، حدثني من هذا الذي تدعو إليه؟ أياقوت [ ص: 392 ] هو ، أذهب هو ، أم ما هو؟ قال : فنزلت على السائل الصاعقة فأحرقته ، فأنزل الله : ( ويرسل الصواعق ) الآية .

20270 - حدثنا محمد بن مرزوق قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال : حدثني علي بن أبي سارة الشيباني قال : حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم مرة رجلا إلى رجل من فراعنة العرب ، أن ادعه لي ، فقال : يا رسول الله ، إنه أعتى من ذلك! قال : اذهب إليه فادعه . قال : فأتاه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك! فقال : من رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من نحاس؟ قال : فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ارجع إليه فادعه" قال : فأتاه فأعاد عليه ورد عليه مثل الجواب الأول . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ارجع إليه فادعه! قال : فرجع إليه . فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما ، إذ بعث الله سحابة بحيال رأسه فرعدت ، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه ، فأنزل الله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

[ ص: 393 ] وقال آخرون : نزلت في رجل من الكفار أنكر القرآن وكذب النبي صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

20271 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا أنكر القرآن وكذب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، فأنزل الله عز وجل فيه : ( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

وقال آخرون : نزلت في أربد أخي لبيد بن ربيعة ، وكان هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفيل .

ذكر من قال ذلك :

20272 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : نزلت يعني قوله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) في أربد أخي لبيد بن ربيعة ؛ لأنه قدم أربد وعامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عامر : يا محمد أأسلم وأكون الخليفة من بعدك؟ قال : لا! قال : فأكون على أهل الوبر وأنت على أهل المدر؟ قال : لا! قال : فما ذاك؟ قال : "أعطيك أعنة الخيل تقاتل عليها ، فإنك رجل فارس . قال : أوليست أعنة الخيل بيدي؟ أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا من بني عامر! قال لأربد : إما أن تكفينيه وأضربه بالسيف ، وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف .

[ ص: 394 ] قال أربد : اكفنيه وأضربه . فقال ابن الطفيل : يا محمد إن لي إليك حاجة . قال : ادن! فلم يزل يدنو ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ادن" حتى وضع يديه على ركبتيه وحنى عليه ، واستل أربد السيف ، فاستل منه قليلا فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بريقه تعوذ بآية كان يتعوذ بها ، فيبست يد أربد على السيف ، فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته ، فذلك قول أخيه :


أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد     فجعني البرق والصواعق بال
فارس يوم الكريهة النجد



وقد ذكرت قبل خبر عبد الرحمن بن زيد بنحو هذه القصة .

وقوله : ( وهم يجادلون في الله ) ، يقول : وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خصومتهم في الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( وهو شديد المحال ) يقول تعالى ذكره : والله شديدة مماحلته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره .

و "المحال" مصدر من قول القائل : ماحلت فلانا فأنا أماحله مماحلة ومحالا و "فعلت" منه : محلت أمحل محلا إذا عرض رجل رجلا لما يهلكه؛ ومنه قوله : "وماحل مصدق" ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

[ ص: 395 ]

فرع نبع يهتز في غصن المج     د غزير الندى شديد المحال

هكذا كان ينشده معمر بن المثنى فيما حدثت عن علي بن المغيرة عنه . وأما الرواة بعد فإنهم ينشدونه :


فرع فرع يهتز في غصن المج     د كثير الندى عظيم المحال

وفسر ذلك معمر بن المثنى ، وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنكال؛ ومنه قول الآخر :


ولبس بين أقوام فكل     أعد له الشغازب والمحالا

[ ص: 396 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

20273 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي رضي الله عنه : ( وهو شديد المحال ) قال : شديد الأخذ .

20274 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : ( وهو شديد المحال ) قال : شديد القوة .

20275 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وهو شديد المحال ) أي القوة والحيلة .

20276 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : ( شديد المحال ) يعني : الهلاك قال : إذا محل فهو شديد وقال قتادة : شديد الحيلة .

20277 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا رجل ، عن عكرمة : ( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) ، قال : جدال أربد ( وهو شديد المحال ) قال : ما أصاب أربد من الصاعقة .

20278 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وهو شديد المحال ) قال : قال ابن عباس : شديد الحول .

20279 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وهو شديد المحال ) قال : شديد القوة ، "المحال" القوة .

قال أبو جعفر : والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل "المحال" أنه الحيلة ، والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن : [ ص: 397 ] " ( وهو شديد المحال ) بفتح الميم؛ لأن الحيلة لا يأتي مصدرها "محالا" بكسر الميم ، ولكن قد يأتي على تقدير "المفعلة" منها ، فيكون محالة ، ومن ذلك قولهم : "المرء يعجز لا محالة ، و "المحالة" في هذا الموضع ، "المفعلة" من الحيلة ، فأما بكسر الميم ، فلا تكون إلا مصدرا ، من "ماحلت فلانا أماحله محالا" و "المماحلة" بعيدة المعنى من "الحيلة" .

قال أبو جعفر : ولا أعلم أحدا قرأه بفتح الميم . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول .

التالي السابق


الخدمات العلمية