صفحة جزء
[ ص: 469 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ( 35 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل العلم بكلام العرب في مرافع "المثل"

فقال بعض نحويي الكوفيين : الرافع للمثل قوله : ( تجري من تحتها الأنهار ) ، في المعنى ، وقال : هو كما تقول : "حلية فلان ، أسمر كذا وكذا" فليس "الأسمر" بمرفوع بالحلية ، إنما هو ابتداء ، أي هو أسمر هو كذا . قال : ولو دخل "أن" في مثل هذا كان صوابا . قال : ومثله في الكلام : "مثلك أنك كذا وأنك كذا" وقوله : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا ) [ سورة عبس : 24 ، 25 ] من وجه ، ( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها ) ، ومن قال : ( أنا صببنا الماء ) ، أظهر الاسم لأنه مردود على "الطعام" بالخفض ، ومستأنف ، أي : طعامه أنا صببنا ثم فعلنا . وقال : معنى قوله : ( مثل الجنة ) ، صفات الجنة .

وقال بعض نحويي البصريين : معنى ذلك : صفة الجنة قال : ومنه قول الله تعالى : ( وله المثل الأعلى ) [ سورة الروم : 27 ] معناه : ولله الصفة العليا . قال : فمعنى الكلام في قوله : ( مثل الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار ) ، أو فيها أنهار ، كأنه قال : وصف الجنة صفة تجري من تحتها الأنهار ، أو صفة فيها أنهار ، والله أعلم .

[ ص: 470 ] قال : ووجه آخر كأنه إذا قيل : ( مثل الجنة ) ، قيل : الجنة التي وعد المتقون . قال : وكذلك قوله : ( وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) [ سورة النمل : 30 ] كأنه قال : بالله الرحمن الرحيم ، والله أعلم .

قال : وقوله : ( على ما فرطت في جنب الله ) [ سورة الزمر : 56 ] في ذات الله ، كأنه عندنا قيل : في الله .

قال : وكذلك قوله : ( ليس كمثله شيء ) [ سورة الشورى : 11 ] إنما المعنى : ليس كشيء ، وليس مثله شيء؛ لأنه لا مثل له . قال : وليس هذا كقولك للرجل : "ليس كمثلك أحد "؛ لأنه يجوز أن يكون له مثل ، والله لا يجوز ذلك عليه . قال : ومثله قول لبيد :


إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

قال : وفسر لنا أنه أراد : السلام عليكما .

قال أوس بن حجر :


وقتلى كرام كمثل الجذوع     تغشاهم سبل منهمر

قال : والمعنى عندنا : كالجذوع؛ لأنه لم يرد أن يجعل للجذوع مثلا ثم يشبه القتلى به . قال : ومثله قول أمية :


زحل وثور تحت رجل يمينه     والنسر للأخرى وليث مرصد

[ ص: 471 ] قال فقال : "تحت رجل يمينه" كأنه قال : تحت رجله ، أو تحت رجله اليمنى . قال : وقول لبيد :


أضل صواره وتضيفته     نطوف أمرها بيد الشمال

كأنه قال : أمرها بالشمال ، وإلى الشمال؛ وقول لبيد أيضا :


حتى إذا ألقت يدا في كافر

فكأنه قال : حتى وقعت في كافر .

وقال آخر منهم : هو من المكفوف عن خبره . قال : والعرب تفعل ذلك . قال : وله معنى آخر : ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) ، مثل الجنة ، موصول ، صفة لها على الكلام الأول .

[ ص: 472 ] قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال ذكر المثل ، فقال ( مثل الجنة ) ، والمراد الجنة ، ثم وصفت الجنة بصفتها ، وذلك أن مثلها إنما هو صفتها وليست صفتها شيئا غيرها . وإذ كان ذلك كذلك ، ثم ذكر "المثل" فقيل : ( مثل الجنة ) ، ومثلها صفتها وصفة الجنة ، فكان وصفها كوصف "المثل" وكان كأن الكلام جرى بذكر الجنة ، فقيل : الجنة تجري من تحتها الأنهار ، كما قال الشاعر :


أرى مر السنين أخذن مني     كما أخذ السرار من الهلال

فذكر "المر" ورجع في الخبر إلى "السنين" .

وقوله : ( أكلها دائم وظلها ) ، يعني ما يؤكل فيها ، يقول : هو دائم لأهلها ، لا ينقطع عنهم ، ولا يزول ولا يبيد ، ولكنه ثابت إلى غير نهاية ( وظلها ) ، يقول : وظلها أيضا دائم؛ لأنه لا شمس فيها .

( تلك عقبى الذين اتقوا ) ، يقول : هذه الجنة التي وصف جل ثناؤه ، عاقبة الذين اتقوا الله ، فاجتنبوا معاصيه وأدوا فرائضه .

وقوله : ( وعقبى الكافرين النار ) ، يقول : وعاقبة الكافرين بالله النار .

التالي السابق


الخدمات العلمية