صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( 46 ) )

يقول تعالى ذكره : قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم ، مكرهم . وكان مكرهم الذي مكروا ما :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبان قال : سمعت عليا يقرأ : وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال قال : كان ملك فره أخذ فروخ النسور ، فعلفها اللحم حتى شبت واستعلجت واستغلظت . فقعد هو وصاحبه في التابوت وربطوا التابوت بأرجل النسور ، وعلقوا اللحم فوق التابوت ، فكانت كلما نظرت إلى اللحم صعدت وصعدت ، فقال لصاحبه : ما ترى؟ قال : أرى الجبال [ ص: 39 ] مثل الدخان ، قالا ما ترى؟ قال : ما أرى شيئا ، قال : ويحك صوب صوب ، قال : فذلك قوله : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن واصل عن علي بن أبي طالب ، مثل حديث يحيى بن سعيد ، وزاد فيه : وكان عبد الله بن مسعود يقرؤها : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا محمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن واصل أن عليا قال في هذه الآية : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال : أخذ ذلك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما ، ثم استغلظا واستعلجا وشبا ، قال : فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، قال : ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم ، قال : فطارا ، وجعل يقول لصاحبه : انظر ماذا ترى؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كأنها ذباب ، فقال : صوب العصا ، فصوبها فهبطا ، قال : فهو قول الله تعالى " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال أبو إسحاق : وكذلك في قراءة عبد الله " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " مكر فارس . وزعم أن بختنصر خرج بنسور ، وجعل له تابوتا يدخله ، وجعل رماحا في أطرافها واللحم فوقها . أراه قال : فعلت تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق : ثم سمع الصوت فوقه ، فصوب الرماح ، فتصوبت النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول منه من حس ذلك ، فذلك قوله " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : "وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كاد مكرهم " [ ص: 40 ] كذا قرأها مجاهد "كاد مكرهم لتزول منه الجبال" وقال : إن بعض من مضى جوع نسورا ، ثم جعل عليها تابوتا فدخله ، ثم جعل رماحا في أطرافها لحم ، فجعلت ترى اللحم فتذهب ، حتى انتهى بصره ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد؟ فصوب الرماح ، فتصوبت النسور ، ففزعت الجبال ، وظنت أن الساعة قد قامت ، فكادت أن تزول ، فذلك قوله تعالى " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن عمر بن الخطاب ، أنه كان يقرأ " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثني هذا الحديث أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم بن سلام ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أنه كان يقرأ على نحو : "لتزول " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل قال : سمعت عليا يقول : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل قال : سمعت عليا يقول : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " قال : ثم أنشأ علي يحدث فقال : نزلت في جبار من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء ، ثم اتخذ نسورا فجعل يطعمها اللحم حتى غلظت واستعلجت واشتدت ، وذكر مثل حديث شعبة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو داود الحضرمي ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد أو جعفر ، عن سعيد بن جبير : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال : نمرود صاحب النسور ، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلا ثم أمر بالنسور فاحتمل ، فلما صعد قال لصاحبه : أي شيء ترى؟ قال : أرى الماء وجزيرة - يعني الدنيا - ثم صعد فقال لصاحبه : أي شيء ترى؟ قال : ما نزداد من السماء إلا بعدا ، قال : اهبط - وقال غيره : نودي - أيها الطاغية أين تريد؟ قال : فسمعت الجبال حفيف النسور ، فكانت ترى أنها أمر من السماء ، فكادت [ ص: 41 ] تزول ، فهو قوله : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، أن أنسا كان يقرأ : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

وقال آخرون : كان مكرهم : شركهم بالله ، وافتراؤهم عليه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال "يقول : شركهم ، كقوله ( تكاد السماوات يتفطرن منه ) .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال : هو كقوله ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله ( وإن كان مكرهم ) ثم ذكر مثله .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن الحسن كان يقول : كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال ، يصفهم بذلك . قال قتادة : وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " ، وكان قتادة يقول عند ذلك ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) أي لكلامهم ذلك .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال ذلك حين دعوا لله ولدا . وقال في آية أخرى ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) في حرف ابن مسعود : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " هو مثل قوله ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) .

[ ص: 42 ] واختلفت القراء في قراءة قوله ( لتزول منه الجبال ) فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة والعراق ما خلا الكسائي ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وقرأه الكسائي : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرأ ذلك : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم ، بمعنى : اشتد مكرهم حتى زالت منه الجبال ، أو كادت تزول منه ، وكان الكسائي يحدث عن حمزة ، عن شبل عن مجاهد ، أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " برفع تزول .

حدثني بذلك الحارث عن القاسم عنه .

والصواب من القراءة عندنا ، قراءة من قرأه ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

وإنما قلنا : ذلك هو الصواب ، لأن اللام الأولى إذا فتحت ، فمعنى الكلام : وقد كان مكرهم تزول منه الجبال ، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة ، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزل ، وأخرى إجماع الحجة من القراء على ذلك ، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره .

فإن ظن ظان أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذ كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك ، فإن الأمر بخلاف ما ظن في ذلك ، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام الأولى ورفع الثانية قرءوا : " وإن كاد مكرهم " بالدال ، وهي إذا قرئت كذلك ، فالصحيح من القراءة مع " وإن كاد " فتح اللام الأولى ورفع الثانية على ما قرءوا ، وغير جائز عندنا القراءة كذلك ، لأن مصاحفنا بخلاف ذلك ، وإنما خط مصاحفنا وإن كان بالنون لا بالدال ، وإذ كانت كذلك ، فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين ، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلا ما عليه قراء الأمصار دون من شذ بقراءته عنهم .

وبنحو ما قلنا في معنى ( وإن كان مكرهم ) قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : [ ص: 43 ] ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس وعمرو ، عن الحسن ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) قالا وكان الحسن يقول : وإن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال .

- قال : قال هارون : وأخبرني يونس ، عن الحسن قال : أربع في القرآن ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وقوله : ( لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ) ما كنا فاعلين ، وقوله : ( إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) ما كان للرحمن ولد ، وقوله : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم ) ما مكناكم فيه .

قال هارون : وحدثني بهن عمرو بن أسباط ، عن الحسن ، وزاد فيهن واحدة ( فإن كنت في شك ) ما كنت في شك ( مما أنزلنا إليك ) .

فالأولى من القول بالصواب في تأويل الآية ، إذ كانت القراءة التي ذكرت هي الصواب لما بينا من الدلالة في قوله ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه ، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه ، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها ، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال ، بل ما ضروا بذلك إلا أنفسهم ، ولا عادت بغية مكروهه إلا عليهم .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا وكيع بن الجراح ، قال : ثنا الأعمش ، عن شمر ، عن علي ، قال : الغدر : مكر ، والمكر كفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية