صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ( 23 ) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ( 24 ) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ( 25 ) )

يقول تعالى ذكره : ( وإنا لنحن نحيي ) من كان ميتا إذا أردنا ( ونميت ) من كان حيا إذا شئنا ( ونحن الوارثون ) يقول : ونحن نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم ، فلا يبقى حي سوانا إذا جاء ذلك الأجل . وقوله : ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولقد علمنا من مضى من الأمم ، فتقدم هلاكهم ، ومن قد خلق وهو حي ، ومن لم يخلق بعد ممن سيخلق .

[ ص: 90 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمون : من قد خلق ومن خلا من الأمم ، والمستأخرون : من لم يخلق .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : هم خلق الله كلهم ، قد علم من خلق منهم إلى اليوم ، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق . قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : إن الله خلق الخلق ففرغ منهم ، فالمستقدمون : من خرج من الخلق ، والمستأخرون : من بقي في أصلاب الرجال لم يخرج .

حدثني محمد بن أبي معشر ، قال : أخبرني أبو معشر ، قال : سمعت عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يذاكر محمد بن كعب في قول الله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) فقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : خير صفوف الرجال المقدم ، وشر صفوف الرجال المؤخر ، وخير صفوف النساء المؤخر ، وشر صفوف النساء المقدم ، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا ، ولقد علمنا المستقدمين منكم : الميت والمقتول ، والمستأخرين : من يلحق بهم من بعد ، وإن ربك هو يحشرهم ، إنه حكيم عليم ، فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيرا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : قال قتادة : المستقدمين : من مضى ، والمستأخرين : من بقي في أصلاب الرجال .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا سعيد بن منصور ، قال : ثنا أبو الأحوص ، قال : ثنا سعيد بن مسروق ، عن عكرمة وخصيف ، عن مجاهد ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قالا من مات ومن بقي .

[ ص: 91 ] حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ) قال : كان ابن عباس يقول : آدم صلى الله عليه وسلم ومن مضى من ذريته ( ولقد علمنا المستأخرين ) : من بقي في أصلاب الرجال .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمون آدم ومن بعده ، حتى نزلت هذه الآية : والمستأخرون : قال : كل من كان من ذريته .

قال أبو جعفر : أظنه أنا قال : ما لم يخلق وما هو مخلوق .

حدثنا أحمد ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : المستقدمون : ما خرج من أصلاب الرجال ، والمستأخرون : ما لم يخرج . ثم قرأ ( وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ) .

وقال آخرون : عنى بالمستقدمين : الذين قد هلكوا ، والمستأخرين : الأحياء الذين لم يهلكوا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) يعني بالمستقدمين : من مات ، ويعني بالمستأخرين : من هو حي لم يمت .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ) يعني الأموات منكم ( ولقد علمنا المستأخرين ) بقيتهم ، وهم الأحياء ، يقول : علمنا من مات ومن بقي .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمون منكم : الذين مضوا في أول الأمم ، والمستأخرون : الباقون .

وقال آخرون : بل معناه : ولقد علمنا المستقدمين في أول الخلق والمستأخرين في آخرهم .

[ ص: 92 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى : قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر في هذه الآية ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال أول الخلق وآخره .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) : ما استقدم في أول الخلق ، وما استأخر في آخر الخلق .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ) قال : في العصر ، والمستأخرين منكم في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد علمنا المستقدمين من الأمم ، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : أخبرنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد المستقدمين منكم ، قال : القرون الأول ، والمستأخرين : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمون : ما مضى من الأمم ، والمستأخرون : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، بنحوه .

[ ص: 93 ] حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبد الملك ، عن مجاهد بنحوه ، ولم يذكر قيسا .

وقال آخرون : بل معناه : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير ، والمستأخرين عنه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : كان الحسن يقول : المستقدمون في طاعة الله ، والمستأخرون في معصية الله .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن ، قال : المستقدمين في الخير ، والمستأخرين : يقول : المبطئين عنه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ، والمستأخرين فيها بسبب النساء .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن رجل أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء ، قال : فأنزل الله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، قال : أخبرني عمرو بن مالك ، قال سمعت أبا الجوزاء يقول في قول الله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال : المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين .

حدثني محمد بن موسى الحرسي ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ، قال ابن عباس : لا والله ما إن رأيت مثلها قط ، فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا ، وبعض يستأخرون ، فإذا سجدوا ، نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) .

[ ص: 94 ] حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا نوح بن قيس ، وحدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مالك بن إسماعيل ، قال : ثنا نوح بن قيس ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس ، فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصف ، فأنزل الله في شأنها ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال : معنى ذلك : ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته ، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد ، لدلالة ما قبله من الكلام ، وهو قوله ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ) وما بعده وهو قوله ( وإن ربك هو يحشرهم ) على أن ذلك كذلك ، إذ كان بين هذين الخبرين ، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدل على خلافه ، ولا جاء بعد . وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك ، ثم يكون الله عز وجل عم بالمعنى المراد منه جميع الخلق ، فقال جل ثناؤه لهم : قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم ، وما كانوا يعملون ، ومن هو حي منكم ، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس ، وأعمال جميعكم خيرها وشرها ، وأحصينا جميع ذلك ونحن نحشر جميعهم ، فنجازي كلا بأعماله ، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا . فيكون ذلك تهديدا ووعيدا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء ولكل من تعدى حد الله وعمل بغير ما أذن له به ، ووعدا لمن تقدم في الصفوف لسبب النساء ، وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها .

وقوله : ( وإن ربك هو يحشرهم ) يعني بذلك جل ثناؤه : وإن ربك يا محمد هو يجمع جميع الأولين والآخرين عنده يوم القيامة ، أهل الطاعة منهم والمعصية ، وكل أحد من خلقه ، المستقدمين منهم والمستأخرين .

وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

[ ص: 95 ] ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وإن ربك هو يحشرهم ) قال : أي الأول والآخر .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا أبو خالد القرشي ، قال : ثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، في قوله ( وإن ربك هو يحشرهم ) قال : هذا من هاهنا ، وهذا من هاهنا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ( وإن ربك هو يحشرهم ) قال : وكلهم ميت ، ثم يحشرهم ربهم .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ( وإن ربك هو يحشرهم ) قال : يجمعهم الله يوم القيامة جميعا ، قال الحسن : قال علي : قال داود : سمعت عامرا يفسر قوله ( إنه حكيم عليم ) يقول : إن ربك حكيم في تدبيره خلقه في إحيائهم إذا أحياهم ، وفي إماتتهم إذا أماتهم ، عليم بعددهم وأعمالهم ، وبالحي منهم والميت ، والمستقدم منهم والمستأخر .

كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كل أولئك قد علمهم الله ، يعني المستقدمين والمستأخرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية