القول في تأويل قوله تعالى : ( 
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان  ) 
قال 
أبو جعفر   : ويتجه في قوله : ( ثم أنتم هؤلاء ) وجهان : أحدهما أن يكون أريد به : ثم أنتم يا هؤلاء ، فترك "يا " استغناء بدلالة الكلام عليه ، كما قال : ( 
يوسف أعرض عن هذا  ) [ يوسف : 29 ] ، وتأويله : يا 
يوسف  أعرض عن هذا . فيكون معنى الكلام حينئذ : ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم : لا تسفكون دماءكم ، ولا تخرجون أنفسكم  
[ ص: 304 ] من دياركم ، ثم أقررتم بعد شهادتكم على أنفسكم بأن ذلك حق لي عليكم ، لازم لكم الوفاء لي به - تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، متعاونين عليهم ، في إخراجكم إياهم ، بالإثم والعدوان! . 
والتعاون هو "التظاهر " . وإنما قيل للتعاون "التظاهر " ، لتقوية بعضهم ظهر بعض ؛ فهو "تفاعل " من "الظهر " ، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض . 
والوجه الآخر : أن يكون معناه : ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم ؛ فيرجع إلى الخبر عن "أنتم " . وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم "بهؤلاء " ، كما تقول العرب : "أنا ذا أقوم ، وأنا هذا أجلس " ، وإذا قيل : "أنا هذا أجلس " كان صحيحا جائزا كذلك : أنت ذاك تقوم " . 
وقد زعم بعض البصريين أن قوله : "هؤلاء " في قوله : ( ثم أنتم هؤلاء ) ، تنبيه وتوكيد ل "أنتم " . وزعم أن "أنتم " وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين ، فإنما جاز أن يؤكدوا ب "هؤلاء " و "أولاء " ؛ لأنها كناية عن المخاطبين ، كما قال 
خفاف بن ندبة   : 
أقول له والرمح يأطر متنه :     تبين خفافا إنني أنا ذلكا 
يريد : أنا هذا ، وكما قال جل ثناؤه : ( 
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم  ) [ يونس : 22 ]  
[ ص: 305 ] ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، نحو اختلافهم فيمن عني بقوله : ( وأنتم تشهدون ) ذكر اختلاف المختلفين في ذلك : 
1471 - حدثنا 
محمد بن حميد  قال : حدثنا 
سلمة  قال : حدثني 
محمد بن إسحاق  قال : حدثني 
محمد بن أبي محمد  ، عن 
عكرمة  ، أو عن 
سعيد بن جبير  ، عن 
ابن عباس  قال : ( 
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان  ) إلى أهل الشرك ، حتى تسفكوا دماءهم معهم ، وتخرجوهم من ديارهم معهم . قال : أنبهم الله [ على ذلك ] من فعلهم ، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم ، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا فريقين : طائفة منهم من 
بني قينقاع  حلفاء 
الخزرج ،  والنضير  وقريظة  حلفاء 
الأوس   . فكانوا إذا كانت بين 
الأوس  والخزرج  حرب خرجت 
بنو قينقاع  مع 
الخزرج  ، وخرجت 
النضير  وقريظة  مع 
الأوس  ، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة ، يعرفون منها ما عليهم وما لهم . 
والأوس  والخزرج  أهل شرك يعبدون الأوثان ، لا يعرفون جنة ولا نارا ، ولا بعثا ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حراما ولا حلالا فإذا وضعت الحرب أوزارها ، افتدوا أسراهم ؛ تصديقا لما في التوراة ، وأخذا به ، بعضهم من بعض . يفتدي 
بنو قينقاع  ما كان من أسراهم في أيدي 
الأوس  ،  
[ ص: 306 ] وتفتدي 
النضير  وقريظة  ما كان في أيدي 
الخزرج  منهم ، ويطلون ما أصابوا من الدماء ، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ؛ مظاهرة لأهل الشرك عليهم . يقول الله تعالى ذكره ، حين أنبهم بذلك : ( 
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض  ) ، أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه - وفي حكم التوراة أن لا يقتل ، ولا يخرج من داره ، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ؛ ابتغاء عرض من عرض الدنيا  . 
ففي ذلك من فعلهم مع 
الأوس  والخزرج   - فيما بلغني - نزلت هذه القصة . 
1472 - وحدثني 
موسى بن هارون  قال : حدثني 
عمرو بن حماد  قال : حدثنا 
أسباط  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي   : ( 
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون  ) قال : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة : أن لا يقتل بعضهم بعضا ، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه ، فأعتقوه ، فكانت 
قريظة  حلفاء 
الأوس  ، 
والنضير  حلفاء 
الخزرج  ، فكانوا يقتتلون في حرب سمير . فيقاتل بنو 
قريظة  مع حلفائها ، 
النضير  وحلفاءها . وكانت 
النضير  تقاتل 
قريظة  وحلفاءها ، فيغلبونهم ، فيخربون بيوتهم ، ويخرجونهم منها ، فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما ، جمعوا له حتى  
[ ص: 307 ] يفدوه ، فتعيرهم العرب بذلك ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم . قالوا : فلم تقاتلونهم؟ قالوا : إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا . فذلك حين عيرهم - جل وعز - فقال : ( 
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان  )  . 
1473 - حدثني 
يونس  قال : أخبرنا 
ابن وهب  قال : قال 
ابن زيد   : كانت 
قريظة  والنضير  أخوين ، وكانوا بهذه المثابة ، وكان الكتاب بأيديهم ، وكانت 
الأوس  والخزرج  أخوين فافترقا ، وافترقت 
قريظة  والنضير  ، فكانت 
النضير  مع 
الخزرج  ، وكانت 
قريظة  مع 
الأوس ،  فاقتتلوا ، وكان بعضهم يقتل بعضا ، فقال الله جل ثناؤه : ( 
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم  ) الآية . 
وقال آخرون بما : - 
1474 - حدثني به 
المثنى  قال : حدثنا 
آدم  قال : حدثنا 
أبو جعفر  ، عن 
الربيع  ، عن 
أبي العالية  قال : كان في بني إسرائيل : إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم . وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم  . 
قال 
أبو جعفر   : وأما "العدوان " فهو "الفعلان " من "التعدي " ، يقال منه : "عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا ، واعتدى يعتدي اعتداء " ، وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا . 
وقد اختلف القرأة في قراءة : ( تظاهرون ) . فقرأها بعضهم : "تظاهرون " على مثال "تفاعلون " فحذف التاء الزائدة وهي التاء الآخرة . وقرأها آخرون :  
[ ص: 308 ]  ( تظاهرون ) ، فشدد ، بتأويل : ( تتظاهرون ) ، غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء ، لتقارب مخرجيهما ، فصيروهما ظاء مشددة . وهاتان القراءتان ، وإن اختلفت ألفاظهما ، فإنهما متفقتا المعنى ؛ فسواء بأي ذلك قرأ القارئ ؛ لأنهما جميعا لغتان معروفتان ، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد ، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى ، إلا أن يختار مختار "تظاهرون " المشددة طلبا منه تتمة الكلمة .