صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقل إني أنا النذير المبين ( 89 ) كما أنزلنا على المقتسمين ( 90 ) الذين جعلوا القرآن عضين ( 91 ) )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد للمشركين : إني أنا النذير الذي قد أبان إنذاره لكم من البلاء والعقاب أن ينزل بكم من الله على تماديكم في غيكم ، كما أنزلنا على المقتسمين : يقول : مثل الذي أنزل الله تعالى من البلاء والعقاب على الذين اقتسموا القرآن ، فجعلوه عضين .

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله ( المقتسمين ) ، فقال بعضهم : عني به : اليهود والنصارى ، وقال : كان اقتسامهم أنهم اقتسموا القرآن وعضوه ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني عيسى بن عثمان الرملي ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قول الله : ( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : هم اليهود والنصارى ، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله ( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : هم أهل الكتاب ، جزءوه فجعلوه أعضاء أعضاء ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه .

[ ص: 143 ] حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قوله ( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : الذين آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : ( المقتسمين ) أهل الكتاب . ( الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض .

حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال في قوله ( كما أنزلنا على المقتسمين ) قال : هم أهل الكتاب .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية ( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : هم أهل الكتاب ، آمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله ( الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : هم أهل الكتاب جزءوه فجعلوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جزءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، قال : هم أهل الكتاب .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( كما أنزلنا على المقتسمين ) قال : هم اليهود والنصارى من أهل الكتاب قسموا الكتاب ، فجعلوه أعضاء ، يقول : أحزابا ، فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .

[ ص: 144 ] حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( المقتسمين ) أهل الكتاب ، ولكنهم سموا المقتسمين ، لأن بعضهم قال استهزاء بالقرآن : هذه السورة لي ، وقال بعضهم : هذه لي .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية ( الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : كانوا يستهزءون ، يقول هذا : لي سورة البقرة ، ويقول هذا : لي سورة آل عمران .

وقال آخرون : هم أهل الكتاب ، ولكنهم قيل لهم : المقتسمون : لاقتسامهم كتبهم ، وتفريقهم ذلك بإيمان بعضهم ببعضها ، وكفره ببعض ، وكفر آخرين بما آمن به غيرهم ، وإيمانهم بما كفر به الآخرون .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : هم اليهود والنصارى ، قسموا كتابهم ففرقوه . وجعلوه أعضاء .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( كما أنزلنا على المقتسمين ) قال : أهل الكتاب فرقوه وبدلوه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( كما أنزلنا على المقتسمين ) قال : أهل الكتاب .

وقال آخرون : عني بذلك رهط من كفار قريش بأعيانهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) رهط خمسة من قريش ، عضهوا كتاب الله .

وقال آخرون : عني بذلك رهط من قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله .

[ ص: 145 ] ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( كما أنزلنا على المقتسمين ) قال : الذين تقاسموا بصالح ، وقرأ قول الله تعالى ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) قال : تقاسموا بالله حتى بلغ الآية .

وقال بعضهم : هم قوم اقتسموا طرق مكة أيام قدوم الحاج عليهم ، كان أهلها بعثوهم في عقابها ، وتقدموا إلى بعضهم أن يشيع في الناحية التي توجه إليها لمن سأله عن نبي الله صلى الله عليه وسلم من القادمين عليهم ، أن يقول : هو مجنون ، وإلى آخر : إنه شاعر ، وإلى بعضهم : إنه ساحر .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم قومه الذين عضوا القرآن ففرقوه ، أنه نذير لهم من سخط الله تعالى وعقوبته ، أن يحل بهم على كفرهم ربهم ، وتكذيبهم نبيهم ، ما حل بالمقتسمين من قبلهم ومنهم ، وجائز أن يكون عني بالمقتسمين : أهل الكتابين : التوراة والإنجيل ، لأنهم اقتسموا كتاب الله ، فأقرت اليهود ببعض التوراة وكذبت ببعضها ، وكذبت بالإنجيل والفرقان ، وأقرت النصارى ببعض الإنجيل وكذبت ببعضه وبالفرقان . وجائز أن يكون عني بذلك : المشركون من قريش ، لأنهم اقتسموا القرآن ، فسماه بعضهم شعرا ، وبعض كهانة ، وبعض أساطير الأولين . وجائز أن يكون عني به الفريقان ، وممكن أن يكون عني به المقتسمون على صالح من قومه ، فإذ لم يكن في التنزيل دلالة على أنه عني به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين ، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا في فطرة عقل ، وكان ظاهر الآية محتملا ما وصفت ، وجب أن يكون مقتضيا بأن كل من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض ، واقتسم على معصية الله ممن حل به عاجل نقمة الله في الدار الدنيا قبل نزول هذه الآية ، فداخل في ذلك لأنهم لأشكالهم من أهل الكفر بالله ، كانوا عبرة ، وللمتعظين بهم منهم عظة .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( الذين جعلوا القرآن عضين ) فقال بعضهم : معناه : الذين جعلوا القرآن فرقا مفترقة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني [ ص: 146 ] معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : فرقا .

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جزءوه فجعلوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جزءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا طلحة ، عن عطاء ( الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : المشركون من قريش ، عضوا القرآن فجعلوه أجزاء ، فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : مجنون ، فذلك العضون .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله ( جعلوا القرآن عضين ) : جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور ، وذلك أنهم تقطعوه زبرا ، كل حزب بما لديهم فرحون ، وهو قوله ( فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( الذين جعلوا القرآن عضين ) عضهوا كتاب الله ، زعم بعضهم أنه سحر ، وزعم بعضهم أنه شعر ، وزعم بعضهم أنه كاهن .

قال أبو جعفر : هكذا قال كاهن ، وإنما هو كهانة ، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ( الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .

حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : جعلوه أعضاء كما تعضى الشاة . قال بعضهم : كهانة ، وقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال [ ص: 147 ] بعضهم ( أساطير الأولين اكتتبها ) . . الآية ، جعلوه أعضاء كما تعضى الشاة فوجه قائلو هذه المقالة قوله ( عضين ) إلى أن واحدها : عضو ، وأن عضين جمعه ، وأنه مأخوذ من قولهم عضيت الشيء تعضية : إذا فرقته ، كما قال رؤبة :


وليس دين الله بالمعضى

يعني بالمفرق ، وكما قال الآخر :

وعضى بني عوف فأما عدوهم فأرضى وأما العز منهم فغيرا يعني بقوله : وعضى : سباهم ، وقطعاهم بألسنتهما . وقال آخرون : بل هي جمع عضة ، جمعت عضين ، كما جمعت البرة برين ، والعزة عزين ، فإذا وجه ذلك إلى هذا التأويل كان أصل الكلام عضهة ، ذهبت هاؤها الأصلية ، كما نقصوا الهاء من الشفة وأصلها شفهة ، ومن الشاة ، وأصلها شاهة ، يدل على أن ذلك الأصل تصغيرهم الشفة : شفيهة ، والشاة : شويهة ، فيردون الهاء التي تسقط في غير حال التصغير ، إليها في حال التصغير ، يقال منه : عضهت الرجل أعضهه عضها . إذا بهته ، وقذفته ببهتان ، وكأن تأويل من تأول [ ص: 148 ] ذلك كذلك : الذين عضهوا القرآن ، فقالوا : هو سحر ، أو هو شعر ، نحو القول الذي ذكرناه عن قتادة .

وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنه إنما عنى بالعضه في هذا الموضع ، نسبتهم إياه إلى أنه سحر خاصة دون غيره من معاني الذم ، كما قال الشاعر :


للماء من عضاتهن زمزمه

يعني : من سحرهن .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ( الذين جعلوا القرآن عضين ) قال : سحرا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( عضين ) قال : عضهوه وبهتوه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان عكرمة يقول : العضه : السحر بلسان قريش ، تقول للساحرة : إنها العاضهة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( جعلوا القرآن عضين ) قال : سحرا أعضاء الكتب كلها وقريش فرقوا القرآن ، قالوا : هو سحر .

[ ص: 149 ] والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم قوما عضهوا القرآن أنه لهم نذير من عقوبة تنزل بهم بعضههم إياه مثل ما أنزل بالمقتسمين ، وكان عضههم إياه : قذفهموه بالباطل ، وقيلهم إنه شعر وسحر ، وما أشبه ذلك .

وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات به لدلالة ما قبله من ابتداء السورة وما بعده ، وذلك قوله ( إنا كفيناك المستهزئين ) على صحة ما قلنا ، وإنه إنما عنى بقوله ( الذين جعلوا القرآن عضين ) مشركي قومه ، وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه لم يكن في مشركي قومه من يؤمن ببعض القرآن ويكفر ببعض ، بل إنما كان قومه في أمره على أحد معنيين : إما مؤمن بجميعه ، وإما كافر بجميعه . وإذ كان ذلك كذلك ، فالصحيح من القول في معنى قوله ( الذين جعلوا القرآن عضين ) الذين زعموا أنهم عضهوه ، فقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : هو شعر ، وقال بعضهم : هو كهانة ، وما أشبه ذلك من القول ، أو عضهوه ففرقوه ، بنحو ذلك من القول ، وإذا كان ذلك معناه احتمل قوله عضين ، أن يكون جمع : عضة ، واحتمل أن يكون جمع عضو ، لأن معنى التعضية : التفريق ، كما تعضى الجزور والشاة ، فتفرق أعضاء . والعضه : البهت ، ورميه بالباطل من القول ، فهما متقاربان في المعنى .

التالي السابق


الخدمات العلمية