1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة النحل
  4. القول في تأويل قوله تعالى " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان "
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( 106 ) ) [ ص: 303 ]

اختلف أهل العربية في العامل في " من " من قوله ( من كفر بالله ) ومن قوله ( ولكن من شرح بالكفر صدرا ) ، فقال بعض نحويي البصرة : صار قوله ( فعليهم ) خبرا لقوله ( ولكن من شرح بالكفر صدرا ) ، وقوله ( من كفر بالله من بعد إيمانه ) فأخبر لهم بخبر واحد ، وكان ذلك يدل على المعنى . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هذان جزءان اجتمعا ، أحدهما منعقد بالآخر ، فجوابهما واحد كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى : من يحسن ممن يأتنا نكرمه . قال : وكذلك كل جزاءين اجتمعا الثاني منعقد بالأول ، فالجواب لهما واحد . وقال آخر من أهل البصرة : بل قوله ( من كفر بالله ) مرفوع بالرد على الذين في قوله ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ) ومعنى الكلام عنده : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئن بالإيمان ، وهذا قول لا وجه له . وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول ، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذين ولدوا على الكفر وأقاموا عليه ، ولم يؤمنوا قط ، وخص به الذين قد كانوا آمنوا في حال ، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان ، والتنزيل يدل على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين ، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب ، فقال : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ) وكذب جميع المشركين بافترائهم على الله وأخبر أنهم أحق بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) ، ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم ، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما أنت مفتر حين بدل الله آية مكان آية ، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين ، لأن هذه في سياق الخبر عنهم ، وذلك قول إن قاله قائل ، فبين فساده مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل .

والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع لمن الأولى والثانية ، قوله [ ص: 304 ] ( فعليهم غضب من الله ) والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر .

وذكر أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم ، فثبت على الإسلام بعضهم ، وافتتن بعض .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) . . . إلى آخر الآية ، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذبوه ، ثم تركوه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي لقي من قريش ، والذي قال : فأنزل الله تعالى ذكره عذره ( من كفر بالله من بعد إيمانه ) . . . إلى قوله ( ولهم عذاب عظيم ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) قال : ذكر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر ، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره ، فأنزل الله تعالى ذكره ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا ) : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب ، ( فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئنا بالإيمان . قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإن عادوا فعد " .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) قال : نزلت في عمار بن ياسر .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : لما [ ص: 305 ] عذب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خباب بن الأرت ، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئا .

فتأويل الكلام إذن : من كفر بالله من بعد إيمانه ، إلا من أكره على الكفر ، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان ، وباح به طائعا ، فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر ، عن ابن عباس .

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه ، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم ، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه ، فلا حرج عليه ، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية