القول في تأويل قوله تعالى : ( 
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون  ( 112 ) ) 
يقول الله تعالى ذكره : ومثل الله مثلا 
لمكة  التي سكنها أهل الشرك بالله هي القرية التي كانت آمنة مطمئنة ، وكان أمنها أن العرب كانت تتعادى ، ويقتل بعضها بعضا ، ويسبي بعضها بعضا ، وأهل 
مكة  لا يغار عليهم ، ولا يحاربون في بلدهم ، فذلك كان أمنها . وقوله ( مطمئنة ) يعني قارة بأهلها ، لا يحتاج أهلها إلى النجع ، كما كان سكان البوادي يحتاجون إليها ( 
يأتيها رزقها رغدا  ) يقول : يأتي أهلها معايشهم واسعة كثيرة . وقوله ( 
من كل مكان  ) يعني : من كل فج من فجاج هذه القرية ، ومن كل ناحية فيها . 
وبنحو الذي قلنا في أن القرية التي ذكرت في هذا الموضع أريد بها 
مكة  ، قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني 
محمد بن سعد ،  قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن 
ابن عباس ،  قوله  
[ ص: 310 ]  ( 
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان  ) يعني : 
مكة   . 
حدثني 
محمد بن عمرو ،  قال : ثنا 
أبو عاصم ،  قال : ثنا 
عيسى  وحدثني 
الحارث ،  قال : ثنا 
الحسن ،  قال : ثنا 
ورقاء  جميعا عن 
ابن أبي نجيح ،  عن 
مجاهد   ( 
قرية كانت آمنة مطمئنة  ) قال : 
مكة   . 
حدثنا 
القاسم ،  قال : ثنا 
الحسين ،  قال : ثني 
حجاج ،  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ،  عن 
مجاهد  مثله . 
حدثنا 
بشر ،  قال : ثنا 
يزيد ،  قال : ثنا 
سعيد ،  عن 
قتادة ،  قوله ( 
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة  ) قال : ذكر لنا أنها 
مكة   . 
حدثنا 
ابن عبد الأعلى ،  قال : ثنا 
ابن ثور ،  عن 
معمر ،  عن 
قتادة   ( 
قرية كانت آمنة  ) قال : هي 
مكة   . 
حدثني 
يونس ،  قال : أخبرنا 
ابن وهب ،  قال : قال 
ابن زيد ،  في قوله ( 
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة  ) . . . إلى آخر الآية . قال : هذه 
مكة   . 
وقال آخرون : بل القرية التي ذكر الله في هذا الموضع 
مدينة الرسول  صلى الله عليه وسلم . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني 
 nindex.php?page=showalam&ids=12613ابن عبد الرحيم البرقي ،  قال : ثنا 
ابن أبي مريم ،  قال : أخبرنا 
نافع بن يزيد ،  قال : ثني 
عبد الرحمن بن شريح ،  أن 
عبد الكريم بن الحارث الحضرمي ،  حدث أنه سمع 
مشرح بن عاهان ،  يقول : سمعت 
سليم بن نمير  يقول : صدرنا من الحج مع 
حفصة  زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، 
وعثمان  محصور 
بالمدينة  ، فكانت تسأل عنه ما فعل ، حتى رأت راكبين ، فأرسلت إليهما تسألهما ، فقالا : قتل . فقالت 
حفصة   : والذي نفسي بيده إنها القرية ، تعني المدينة التي قال الله تعالى ( 
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله  ) قرأها ، قال 
أبو شريح :  وأخبرني 
عبد الله بن المغيرة  عمن حدثه ، أنه كان يقول : إنها 
المدينة  ، وقوله : ( 
فكفرت بأنعم الله  ) يقول : فكفر أهل هذه القرية بأنعم الله التي أنعم عليها .  
[ ص: 311 ] 
واختلف أهل العربية في واحد الأنعم ، فقال بعض نحويي 
البصرة   : جمع النعمة على أنعم ، كما قال الله ( 
حتى إذا بلغ أشده  ) فزعم أنه جمع الشدة . وقال آخر منهم الواحد نعم ، وقال : يقال : أيام طعم ونعم : أي نعيم ، قال : فيجوز أن يكون معناها : فكفرت بنعيم الله لها . واستشهد على ذلك بقول الشاعر : 
وعندي قروض الخير والشر كله فبؤس لذي بؤس ونعم بأنعم 
وكان بعض أهل 
الكوفة  يقول : أنعم : جمع نعماء ، مثل بأساء وأبؤس ، وضراء وأضر ; فأما الأشد فإنه زعم أنه جمع شد . 
وقوله ( 
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف  ) يقول تعالى ذكره : فأذاق الله أهل هذه القرية لباس الجوع ، وذلك جوع خالط أذاه أجسامهم ، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لمخالطته بأجسامهم بمنزلة اللباس لها . وذلك أنهم سلط عليهم الجوع سنين متوالية بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أكلوا العلهز والجيف . قال 
أبو جعفر   : والعلهز : الوبر يعجن بالدم والقراد يأكلونه ; وأما الخوف فإن ذلك كان خوفهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت تطيف بهم . وقوله ( 
بما كانوا يصنعون  ) يقول : بما كانوا يصنعون من الكفر بأنعم الله ، ويجحدون آياته ، ويكذبون رسوله ، وقال : بما كانوا يصنعون ، وقد جرى الكلام من ابتداء الآية إلى هذا الموضع على وجه الخبر عن القرية ، لأن الخبر وإن كان جرى في الكلام عن القرية ، استغناء بذكرها عن ذكر أهلها لمعرفة السامعين بالمراد منها ، فإن المراد أهلها فلذلك قيل ( 
بما كانوا يصنعون  ) فرد الخبر إلى أهل القرية ، وذلك نظير قوله ( 
فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون  ) ولم يقل قائلة ، وقد قال قبله ( 
فجاءها بأسنا  ) ، لأنه رجع بالخبر إلى الإخبار عن أهل القرية ، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة .