1. الرئيسية
  2. تفسير الطبري
  3. تفسير سورة الإسراء
  4. القول في تأويل قوله تعالى " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا "
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 ) )

وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى القضاء : الفراغ من الشيء ، ثم يستعمل في كل مفروغ منه ، فتأويل الكلام في هذا الموضع : وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم ، وإخباره [ ص: 356 ] لهم ( لتفسدن في الأرض مرتين ) يقول : لتعصن الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفن أمره في بلاده مرتين ( ولتعلن علوا كبيرا ) يقول : ولتستكبرن على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) قال : أعلمناهم .

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) يقول : أعلمناهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : وقضينا على بني إسرائيل في أم الكتاب ، وسابق علمه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) قال : هو قضاء مضى عليهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) قضاء قضاه على القوم كما تسمعون .

وقال آخرون : معنى ذلك : أخبرنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) قال : أخبرنا بني إسرائيل .

وكل هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله ( وقضينا ) وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القراء على قراءة قوله ( لتفسدن ) بالتاء دون الياء ، ولو كان معنى الكلام : وقضينا عليهم في الكتاب ، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء ، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم ، وقلنا لهم : كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة .

وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرة الأولى ما حدثني به هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن [ ص: 357 ] أبي صالح ، وعن أبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن عبد الله أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة ( لتفسدن في الأرض مرتين ) فكان أول الفسادين : قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، وكان يدعى صحابين فبعث الجنود ، وكان أساورته من أهل فارس ، فهم أولو بأس شديد ، فتحصنت بنو إسرائيل ، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا ، إنما خرج يستطعم ، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم ، فسمعهم يقولون : لو يعلم عدونا ما قذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا ، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم ، واشتد القيام على الجيش ، فرجعوا ، وذلك قول الله ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) ثم إن بني إسرائيل تجهزوا ، فغزوا النبط ، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم ، فذلك قول الله ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ) يقول : عددا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين : قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس ، من قتل زكريا ، وسلط عليهم بختنصر من قتل يحيى .

حدثنا عصام بن رواد بن الجراح ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعلوا ، وقتلوا الأنبياء ، بعث الله عليهم ملك فارس بختنصر ، وكان الله ملكه سبع مائة سنة ، فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها وفتحها ، وقتل على دم زكريا سبعين ألفا ، ثم سبى أهلها وبني الأنبياء ، وسلب حلي بيت المقدس ، واستخرج منها سبعين ألفا ومائة ألف عجلة من حلي حتى أورده بابل ، قال حذيفة : فقلت : يا رسول الله لقد كان بيت المقدس [ ص: 358 ] عظيما عند الله؟ قال : أجل بناه سليمان بن داود من ذهب ودر وياقوت وزبرجد ، وكان بلاطه ، بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة ، وعمده ذهبا ، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين ، فسار بختنصر بهذه الأشياء حتى نزل بها بابل ، فأقام بنوا إسرائيل في يديه مائة سنة تعذبهم المجوس وأبناء المجوس ، فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء ، ثم إن الله رحمهم ، فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس ، وكان مؤمنا ، أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم ، فسار كورس ببني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتى رده إليه ، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ، ثم إنهم عادوا في المعاصي ، فسلط الله عليهم إبطيا نحوس فغزا بأبناء من غزا مع بختنصر ، فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس ، فسبى أهلها ، وأحرق بيت المقدس ، وقال لهم : يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء ، فعادوا في المعاصي ، فسير الله عليهم السباء الثالث ملك رومية ، يقال له قاقس بن إسبايوس ، فغزاهم في البر والبحر ، فسباهم وسبى حلي بيت المقدس ، وأحرق بيت المقدس بالنيران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا من صنعة حلي بيت المقدس ، ويرده المهدي إلى بيت المقدس ، وهو ألف سفينة وسبع مائة سفينة ، يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس ، وبها يجمع الله الأولين والآخرين " .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل ، وفي أحداثهم ما هم فاعلون بعده ، فقال ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) . . . . إلى قوله ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) فكانت بنو إسرائيل ، وفيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ، متعطفا عليهم محسنا إليهم ، فكان مما أنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم ، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع ، أن ملكا منهم كان يدعى صديقة ، وكان الله إذا ملك الملك عليهم ، بعث نبيا [ ص: 359 ] يسدده ويرشده ، ويكون فيما بينه وبين الله ، ويحدث إليه في أمرهم ، لا ينزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها ، وينهونهم عن المعصية ، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة; فلما ملك ذلك الملك ، بعث الله معه شعياء بن أمصيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى . وشعياء الذي بشر بعيسى ومحمد ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا; فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث ، وشعياء معه ، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ، ومعه ست مائة ألف راية ، فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس ، والملك مريض ، في ساقه قرحة ، فجاء النبي شعياء ، فقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل ، قد نزل بك هو وجنوده ستمائة ألف راية ، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم ، فكبر ذلك على الملك ، فقال : يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث ، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ، فقال له النبي عليه السلام : لم يأتني وحي أحدث إلي في شأنك ، فبينا هم على ذلك ، أوحى الله إلى شعياء النبي : أن ائت ملك بني إسرائيل ، فمره أن يوصي وصيته ، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته . فأتى النبي شعياء ملك بني إسرائيل صديقة ، فقال له : إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك ، وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك ، فإنك ميت; فلما قال ذلك شعياء لصديقة ، أقبل على القبلة ، فصلى وسبح ودعا وبكى ، فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظن صادق ، اللهم رب الأرباب ، وإله الآلهة ، قدوس المتقدسين ، يا رحمن يا رحيم ، المترحم الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك ، فأنت أعلم به من نفسي; سري وعلانيتي لك . وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا ، فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه ، وقد رأى بكاءه ، وقد أخر أجله خمس عشرة سنة ، وأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده ، فأتى شعياء النبي إلى ذلك الملك فأخبره بذلك ، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع ، [ ص: 360 ] وانقطع عنه الشر والحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي ، لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت ، أنت الذي تعطي الملك من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، أنت الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين ، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي; فلما رفع رأسه ، أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده بالتينة ، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ، ويصبح وقد برئ ، ففعل ذلك فشفي ، وقال الملك لشعياء النبي : سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا ، قال : فقال الله لشعياء النبي : قل له : إني قد كفيتك عدوك ، وأنجيتك منه ، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه; فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم ، فصرخ على باب المدينة : يا ملك بني إسرائيل ، إن الله قد كفاك عدوك فاخرج ، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا; فلما خرج الملك التمس سنحاريب ، فلم يوجد في الموتى ، فبعث الملك في طلبه ، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه ، أحدهم بختنصر ، فجعلوهم في الجوامع ، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل; فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر ، ثم قال لسنحاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب له : قد أتاني خبر ربكم ، ونصره إياكم ، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي ، فلم أطع مرشدا ، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم ، ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي ، فقال ملك بني إسرائيل : الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء ، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة بك عليه ، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شر لك ، لتزدادوا شقوة في الدنيا ، وعذابا في الآخرة ، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا ، ولتنذروا من بعدكم ، ولولا ذلك ما أبقاكم ، فلدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته ، ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه ، فقذف في رقابهم الجوامع ، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا ، وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم ، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما يفعل بنا ، فافعل ما أمرت ، فنقل [ ص: 361 ] بهم الملك إلى سجن القتل ، فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم; فبلغ النبي شعياء الملك ذلك ، ففعل ، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل; فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ، ووحي الله إلى نبيهم ، فلم تطعنا ، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، فكان أمر سنحاريب مما خوفوا ، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة ، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ، ثم مات .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جده يعمل بعمله ، ويقضي بقضائه ، فلبث سبع عشرة سنة . ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة; فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك ، حتى قتل بعضهم بعضا عليه ، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ، ولا يقبلون منه; فلما فعلوا ذلك ، قال الله فيما بلغنا لشعياء : قم في قومك أوح على لسانك; فلما قام النبي أطلق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ، ويا أرض أنصتي ، فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته ، واصطفاهم لنفسه ، وخصهم بكرامته ، وفضلهم على عباده ، وفضلهم بالكرامة ، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فآوى شاردتها ، وجمع ضالتها ، وجبر كسيرها ، وداوى مريضها ، وأسمن مهزولها ، وحفظ سمينها; فلما فعل ذلك بطرت ، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا ، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير ، فويل لهذه الأمة الخاطئة ، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين . إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه ، وإن الحمار ربما يذكر الآري الذي شبع عليه فيراجعه ، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه ، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين ، وهم أولو الألباب والعقول ، ليسوا ببقر ولا حمير ، وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه : قل لهم : كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا ، خربة مواتا لا عمران فيها ، وكان لها رب حكيم قوي ، فأقبل عليها بالعمارة ، وكره أن تخرب أرضه وهو قوي ، أو يقال ضيع وهو حكيم ، فأحاط عليها جدارا ، [ ص: 362 ] وشيد فيها قصرا ، وأنبط فيها نهرا ، وصف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب ، وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه فيما ذا رأي وهمة ، حفيظا قويا أمينا ، وتأنى طلعها وانتظرها; فلما أطلعت جاء طلعها خروبا ، قالوا : بئست الأرض هذه ، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها ، ويدفن نهرها ، ويقبض قيمها ، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة ، خربة مواتا لا عمران فيها ، قال الله لهم : فإن الجدار ذمتي ، وإن القصر شريعتي ، وإن النهر كتابي ، وإن القيم نبيي ، وإن الغراس هم ، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة ، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وإنه مثل ضربه الله لهم يتقربون إلي بذبح البقر والغنم ، وليس ينالني اللحم ولا آكله ، ويدعون أن يتقربوا بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها ، فأيديهم مخضوبة منها ، وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي البيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها ، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها ، ويزوقون لي البيوت والمساجد ويزينونها ، ويخربون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها ، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها ، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها ، إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها ، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها ، يقولون : لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها ، ولو كان الله يقدر على أن يفقه قلوبنا لأفقهها ، فاعمد إلى عودين يابسين ، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون ، فقل للعودين : إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا ، فلما قال لهما ذلك ، اختلطا فصارا واحدا ، فقال الله : قل لهم : إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولف بينها ، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت ، أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبهم ، وأنا الذي صورتها; يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا ، وصلينا فلم تنور صلاتنا ، وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام ، وبكينا بمثل عواء الذئب ، في كل ذلك لا نسمع ، ولا يستجاب لنا; قال الله : فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ، ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين ، وأقرب المجيبين ، وأرحم الراحمين؟ آلآن ذات يدي قلت ؟ كيف ويداي مبسوطتان بالخير ، أنفق كيف أشاء ، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري ، ألا وإن رحمتي وسعت كل شيء ، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها [ ص: 363 ] ; أو لأن البخل يعتريني ، أولست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات ، أجود من أعطى ، وأكرم من سئل; لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها ، واشتروا بها الدنيا ، إذن لأبصروا من حيث أتوا ، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم ، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ، ويتقوون عليه بطعمة الحرام ، وكيف أنور صلاتهم ، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني ، وينتهك محارمي ، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم ، أوجر عليها أهلها المغصوبين ، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد ، وإنما أستجيب للداعي اللين ، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين ، وإن من علامة رضاي رضا المساكين ، فلو رحموا المساكين ، وقربوا الضعفاء ، وأنصفوا المظلوم ، ونصروا المغصوب ، وعدلوا للغائب ، وأدوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين ، وكل ذي حق حقه ، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم ، وإذن لكنت نور أبصارهم ، وسمع آذانهم ، ومعقول قلوبهم ، وإذن لدعمت أركانهم ، فكنت قوة أيديهم وأرجلهم ، وإذن لثبت ألسنتهم وعقولهم ، يقولون لما سمعوا كلامي ، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة ، وأحاديث متوارثة ، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا ، وكلهم يستخفي بالذي يقول ويسر ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما يبدون وما يكتمون ، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض قضاء أثبته على نفسي ، وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع ، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب ، فليخبروك متى أنفذه ، أو في أي زمان يكون ، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون ، فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت ، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين ، فإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء ، وأن أحول الملك في الرعاء ، والعز في الأذلاء ، والقوة في الضعفاء ، والغنى في الفقراء ، والثروة في الأقلاء ، والمدائن في الفلوات ، والآجام في المفاوز ، والبردى في الغيطان ، والعلم [ ص: 364 ] في الجهلة ، والحكم في الأميين ، فسلهم متى هذا ، ومن القائم بهذا ، وعلى يد من أسنه ، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون ، فإني باعث لذلك نبيا أميا ، ليس أعمى من عميان ، ولا ضالا من ضالين ، وليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال للخنا ، أسدده لكل جميل ، أهب له كل خلق كريم ، أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والعرف خلقه; والعدل والمعروف سيرته ، والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأشهر به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به قلوبا مختلفة ، وأهواء مشتتة ، وأمما متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، توحيدا لي ، وإيمانا وإخلاصا بي ، يصلون لي قياما وقعودا ، وركوعا وسجودا ، يقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ، ألهمهم التكبير والتوحيد ، والتسبيح والحمد والمدحة ، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، يكبرون ويهللون ، ويقدسون على رءوس الأسواق ، ويطهرون لي الوجوه والأطراف ، ويعقدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم . فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته ، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه ، فهرب منهم ، فلقيته شجرة ، فانفلقت فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها ، وقطعوه في وسطها .

قال أبو جعفر : فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السدي ، وقول ابن زيد ، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرة الأولى قتلهم زكريا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده ، إلى أن بعث الله عليهم من أحل على يده بهم نقمته من معاصي الله ، وعتوهم على ربهم ، وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه ، فكان إفسادهم المرة الأولى ما وصف من قتلهم [ ص: 365 ] شعياء بن أمصيا نبي الله . وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل ، وأن المقتول إنما هو شعياء ، وأن بختنصر هو الذي سلط على بني إسرائيل في المرة الأولى بعد قتلهم شعياء . حدثنا بذلك ابن حميد ، عن سلمة عنه .

وأما إفسادهم في الأرض المرة الآخرة ، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا . وقد اختلفوا في الذي سلطه الله عليهم منتقما به منهم عند ذلك ، وأنا ذاكر اختلافهم في ذلك إن شاء الله .

وأما قوله ( ولتعلن علوا كبيرا ) فقد ذكرنا قول من قال : يعني به استكبارهم على الله بالجراءة عليه ، وخلافهم أمره .

وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولتعلن علوا كبيرا ) قال : ولتعلن الناس علوا كبيرا .

حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وأما قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما ) يعني : فإذا جاء وعد أولى المرتين اللتين يفسدون بهما في الأرض . كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما ) قال : إذا جاء وعد أولى تينك المرتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل ( لتفسدن في الأرض مرتين ) .

وقوله ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) يعني تعالى ذكره بقوله ( بعثنا عليكم ) وجهنا إليكم ، وأرسلنا عليكم ( عبادا لنا أولي بأس شديد ) يقول : ذوي بطش في الحروب شديد . وقوله ( فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا )

يقول : فترددوا بين الدور والمساكن ، وذهبوا وجاءوا ، يقال فيه : جاس القوم بين الديار وحاسوا بمعنى واحد ، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، روي الخبر عن ابن عباس .

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، [ ص: 366 ] عن ابن عباس ( فجاسوا خلال الديار ) قال : مشوا . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : معنى جاسوا : قتلوا ، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان :


ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر



وجائز أن يكون معناه : فجاسوا خلال الديار ، فقتلوهم ذاهبين وجائين ، فيصح التأويلان جميعا ، ويعني بقوله ( وكان وعدا مفعولا ) وكان جوس القوم الذين نبعث عليهم خلال ديارهم وعدا من الله لهم مفعولا ذلك ، لا محالة ، لأنه لا يخلف الميعاد .

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله ( أولي بأس شديد ) فيما كان من فعلهم في المرة الأولى في بني إسرائيل حين بعثوا عليهم ، ومن الذين بعث عليهم في المرة الآخرة ، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله عليهم في المرة الأولى جالوت ، وهو من أهل الجزيرة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) قال : بعث الله عليهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، وضرب عليهم الخراج والذل ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله ، فبعث الله طالوت ، فقاتلوا جالوت ، فنصر الله بني إسرائيل ، وقتل جالوت بيدي داود ، ورجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) [ ص: 367 ] قضاء قضى الله على القوم كما تسمعون ، فبعث عليهم في الأولى جالوت الجزري ، فسبى وقتل ، وجاسوا خلال الديار كما قال الله ، ثم رجع القوم على دخن فيهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت ، حتى بعث طالوت ومعه داود ، فقتله داود .

وقال آخرون : بل بعث عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره ممن لم نذكره قبل .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي المعلى ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، يقول في قوله ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) قال : بعث الله تبارك وتعالى عليهم في المرة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى ، فسألت سعيدا عنها ، فزعم أنها الموصل .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قال : ثنى يعلى بن مسلم بن سعيد بن جبير ، أنه سمعه يقول : كان رجل من بني إسرائيل يقرأ حتى إذا بلغ ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) بكى وفاضت عيناه ، وطبق المصحف ، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان ، ثم قال : أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه ، فأري في المنام مسكينا ببابل ، يقال له بختنصر ، فانطلق بمال وأعبد له ، وكان رجلا موسرا ، فقيل له أين تريد؟ قال : أريد التجارة حتى نزل دارا ببابل ، فاستكراها ليس فيها أحد غيره ، فحمل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لم يبق أحد ، فقال : هل بقي مسكين غيركم؟ قالوا : نعم ، مسكين بفج آل فلان مريض يقال له بختنصر ، فقال لغلمته : انطلقوا ، حتى أتاه ، فقال : ما اسمك؟ قال : بختنصر ، فقال لغلمته : احتملوه ، فنقله إليه ومرضه حتى برئ ، فكساه وأعطاه نفقة ، ثم آذن الإسرائيلي بالرحيل ، فبكى بختنصر ، فقال الإسرائيلي : ما يبكيك؟ قال : أبكي أنك فعلت بي ما فعلت ، ولا أجد شيئا أجزيك ، قال : بلى شيئا يسيرا ، [ ص: 368 ] إن ملكت أطعتني ، فجعل الآخر يتبعه ويقول : تستهزئ بي ، ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله ، إلا أنه يرى أنه يستهزئ به ، فبكى الإسرائيلي وقال : ولقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك ، إلا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه; فقال يوما صيحون ، وهو ملك فارس ببابل : لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام؟ قالوا : وما ضرك لو فعلت؟ قال : فمن ترون؟ قالوا : فلان ، فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف ، وخرج بختنصر في مطبخه ، لم يخرج إلا ليأكل في مطبخه; فلما قدم الشام ورأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا ، فكسر ذلك في ذرعه ، فلم يسأل قال : فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول : ما يمنعكم أن تغزوا بابل ، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء ، قالوا : لا نحسن القتال ، قال : فلو أنكم غزوتم ، قالوا : إنا لا نحسن القتال ولا نقاتل . حتى أنفذ مجالس أهل الشام ، ثم رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى ، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك : لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان; فرفع ذلك إليه ، فدعاه فأخبره الخبر وقال : إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا ، كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء ، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله ، فقلت لهم كذا وكذا ، وقالوا لي كذا وكذا ، الذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم ، قال الطليعة لبختنصر : إنك فضحتني لك مائة ألف وتنزع عما قلت ، قال : لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت ، ضرب الدهر من ضربه; فقال الملك : لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام ، فإن وجدوا مساغا ساغوا ، وإلا انثنوا ما قدروا عليه ، قالوا : ما ضرك لو فعلت؟ قال : فمن ترون؟ قالوا : فلان ، قال : بل الرجل الذي أخبرني ما أخبرني ، فدعا بختنصر وأرسله ، وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم ، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار ، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا ، ومات صيحون الملك قالوا : استخلفوا رجلا قالوا : على رسلكم [ ص: 369 ] حتى تأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم ، لن ينقضوا عليكم شيئا ، أمهلوا; فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه ، فقسمه في الناس ، فقالوا : ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا ، فملكوه .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام ، فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق ، فوجد بها دما يغلي على كبا : أي كناسة ، فسألهم ما هذا الدم؟ قالوا : أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن .

وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل فارس ، قالوا : ولم يكن في المرة الأولى قتال .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ) قال : من جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ويسمعون حديثهم ، معهم بختنصر ، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه ، ثم رجعت فارس ولم يكن قتال ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل ، فهذا وعد الأولى .

حدثني الحرث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) جند جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) قال : ذلك أي من جاءهم من فارس ، ثم ذكر نحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية