صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( 17 ) ) [ ص: 407 ]

وهذا وعيد من الله تعالى ذكره مكذبي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش ، وتهديدهم لهم بالعقاب ، وإعلام منه لهم ، أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه مقيمون من تكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم أنه محل بهم سخطه ، ومنزل بهم من عقابه ما أنزل بمن قبلهم من الأمم الذين سلكوا في الكفر بالله ، وتكذيب رسله سبيلهم ، يقول الله تعالى ذكره : وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به ، وتكذيب رسله ، على مثل الذي أنتم عليه ، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم ، لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جل ثناؤه ، فيعذب قوما بما لا يعذب به آخرين ، أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين; يقول جل ثناؤه : فأنيبوا إلى طاعة الله ربكم ، فقد بعثنا إليكم رسولا ينبهكم على حججنا عليكم ، ويوقظكم من غفلتكم ، ولم نكن لنعذب قوما حتى نبعث إليهم رسولا منبها لهم على حجج الله ، وأنتم على فسوقكم مقيمون ، وكفى بربك يا محمد بذنوب عباده خبيرا : يقول : وحسبك يا محمد بالله خابرا بذنوب خلقه عالما ، فإنه لا يخفى عليه شيء من أفعال مشركي قومك هؤلاء ، ولا أفعال غيرهم من خلقه ، وهو بجميع ذلك عالم خابر بصير ، يقول : يبصر ذلك كله فلا يغيب عنه منه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .

وقد اختلف في مبلغ مدة القرن ،

فحدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن أبي محمد بن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : القرن : عشرون ومائة سنة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن كان ، وآخرهم يزيد بن معاوية .

وقال آخرون : بل هو مائة سنة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا حسان بن محمد بن عبد الرحمن الحمصي أبو الصلت الطائي ، قال : ثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن القاسم ، عن عبد الله بن بسر المازني ، قال : وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه وقال : " سيعيش هذا الغلام قرنا " قلت : كم القرن؟ قال : " مائة سنة " .

حدثنا حسان بن محمد ، قال : ثنا سلامة بن حواس ، عن محمد بن [ ص: 408 ] القاسم ، قال : ما زلنا نعد له حتى تمت مائة سنة ثم مات ، قال أبو الصلت : أخبرني سلامة أن محمد بن القاسم هذا كان ختن عبد الله بن بسر .

وقال آخرون في ذلك بما حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، عن ابن سيرين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القرن أربعون سنة " .

وقوله ( وكفى بربك ) أدخلت الباء في قوله ( بربك ) وهو في محل رفع ، لأن معنى الكلام : وكفاك ربك ، وحسبك ربك بذنوب عباده خبيرا ، دلالة على المدح ، وكذلك تفعل العرب في كل كلام كان بمعنى المدح أو الذم ، تدخل في الاسم الباء والاسم المدخلة عليه الباء في موضع رفع لتدل بدخولها على المدح أو الذم كقولهم : أكرم به رجلا وناهيك به رجلا وجاد بثوبك ثوبا ، وطاب بطعامكم طعاما ، وما أشبه ذلك من الكلام ، ولو أسقطت الباء مما دخلت فيه من هذه الأسماء رفعت ، لأنها في محل رفع ، كما قال الشاعر :


ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا



فأما إذا لم يكن في الكلام مدح أو ذم فلا يدخلون في الاسم الباء; لا يجوز أن يقال : قام بأخيك ، وأنت تريد : قام أخوك ، إلا أن تريد : قام رجل آخر به ، وذلك معنى غير المعنى الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية