صفحة جزء
[ ص: 413 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ( 23 ) )

يعني بذلك تعالى ذكره حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله ، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله ( وقضى ربك ) وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحدا .

ذكر ما قالوا في ذلك : حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) يقول : أمر .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا زكريا بن سلام ، قال : جاء رجل إلى الحسن ، فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إنك عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، فقال الرجل : قضى الله ذلك علي ، قال الحسن ، وكان فصيحا : ما قضى الله : أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) : أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه ، فهذا قضاء الله العاجل ، وكان يقال في بعض الحكمة : من أرضى والديه : أرضى خالقه ، ومن أسخط والديه ، فقد أسخط ربه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، وفي حرف ابن مسعود : ( وصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه )

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، قال : ثنا نصير بن أبي الأشعث ، قال : ثني ابن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبيه ، قال : أعطاني ابن عباس مصحفا ، فقال : هذا على قراءة أبي بن كعب ، قال أبو كريب : قال [ ص: 414 ] يحيى : رأيت المصحف عند نصير فيه : ( ووصى ربك ) يعني : وقضى ربك .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) قال : وأوصى ربك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه .

حدثني الحرث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك بن مزاحم ، أنه قرأها ( ووصى ربك ) وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا .

وقوله ( وبالوالدين إحسانا ) يقول : وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبروهما . ومعنى الكلام : وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين ، فلما حذفت " أن " تعلق القضاء بالإحسان ، كما يقال في الكلام : آمرك به خيرا ، وأوصيك به خيرا ، بمعنى : آمرك أن تفعل به خيرا ، ثم تحذف " أن " فيتعلق الأمر والوصية بالخبر ، كما قال الشاعر :


عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا




خيرا بها كأننا جافونا



وعمل يوصينا في الخير .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قراء الكوفيين ( إما يبلغن ) على التوحيد على توجيه ذلك إلى أحدهما لأن أحدهما واحد ، فوحدوا ( يبلغن ) لتوحيده ، وجعلوا قوله ( أو كلاهما ) معطوفا على الأحد . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين ( إما يبلغان ) على التثنية وكسر النون وتشديدها ، وقالوا : قد ذكر الوالدان قبل ، وقوله ( يبلغان ) خبر عنهما بعد ما قدم أسماءهما ، قالوا : والفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فيه دليل على أنه خبر عن اثنين [ ص: 415 ] أو جماعة . قالوا : والدليل على أنه خبر عن اثنين في الفعل المستقبل الألف والنون . قالوا : وقوله ( أحدهما أو كلاهما ) كلام مستأنف ، كما قيل ( فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم ) وكقوله ( وأسروا النجوى ) ثم ابتدأ فقال ( الذين ظلموا ) .

وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك ، قراءة من قرأه ( إما يبلغن ) على التوحيد على أنه خبر عن أحدهما ، لأن الخبر عن الأمر بالإحسان في الوالدين ، قد تناهى عند قوله ( وبالوالدين إحسانا ) ثم ابتدأ قوله ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) .

وقوله ( فلا تقل لهما أف ) يقول : فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس ، ولكن اصبر على ذلك منهما ، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما ، كما صبرا عليك في صغرك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن محبب ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) قال : إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن ، فلا تقل لهما أف تقذرهما .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد إما يبلغان عندك الكبر فلا تقل لهما أف حين ترى الأذى ، وتميط عنهما الخلاء والبول ، كما كانا يميطانه عنك صغيرا ، ولا تؤذهما .

وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى " أف " ، فقال بعضهم : معناه :

كل ما غلظ من الكلام وقبح . وقال آخرون : الأف : وسخ الأظفار ، والتف : كل ما رفعت يدك من الأرض من شيء حقير ، وللعرب في " أف " لغات ست رفعها بالتنوين وغير التنوين وخفضها كذلك ونصبها ، فمن خفض ذلك بالتنوين ، وهي قراءة عامة أهل المدينة ، شبهها بالأصوات التي لا معنى لها ، كقولهم في حكاية الصوت غاق غاق ، فخفضوا القاف ونونوها ، وكان حكمها السكون ، فإنه لا شيء يعربها من أجل مجيئها بعد حرف ساكن وهو الألف ، فكرهوا أن يجمعوا بين ساكنين ، فحركوا إلى أقرب الحركات من السكون ، [ ص: 416 ] وذلك الكسر ، لأن المجزوم إذا حرك ، فإنما يحرك إلى الكسر ، وأما الذين خفضوا بغير تنوين ، وهي قراءة عامة قراء الكوفيين والبصريين ، فإنهم قالوا : إنما يدخلون التنوين فيما جاء من الأصوات ناقصا ، كالذي يأتي على حرفين مثل : مه وصه وبخ ، فيتمم بالتنوين لنقصانه عن أبنيه الأسماء . قالوا : وأف تام لا حاجة بها إلى تتمته بغيره ، لأنه قد جاء على ثلاثة أحرف .

قالوا : وإنما كسرنا الفاء الثانية لئلا نجمع بين ساكنين . وأما من ضم ونون ، فإنه قال : هو اسم كسائر الأسماء التي تعرف وليس بصوت ، وعدل به عن الأصوات ، وأما من ضم ذلك بغير تنوين ، فإنه قال : ليس هو باسم متمكن فيعرب بإعراب الأسماء المتمكنة ، وقالوا : نضمه كما نضم قوله ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) ، وكما نضم الاسم في النداء المفرد ، فنقول : يا زيد . ومن نصبه بغير تنوين ، وهو قراءة بعض المكيين وأهل الشام فإنه شبهه بقولهم : مد يا هذا ورد . ومن نصب بالتنوين ، فإنه أعمل الفعل فيه ، وجعله اسما صحيحا ، فيقول : ما قلت له أفا ولا تفا . وكان بعض نحويي البصرة يقول : قرئت : أف ، " وأفا " لغة جعلوها مثل نعتها . وقرأ بعضهم " أف " ، وذلك أن بعض العرب يقول : " أف لك " على الحكاية : أي لا تقل لهما هذا القول . قال : والرفع قبيح ، لأنه لم يجئ بعده بلام ، والذين قالوا : " أف " فكسروا كثير ، وهو أجود . وكسر بعضهم ونون . وقال بعضهم : " أفي " ، كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه ، فقال : أفي هذا لكما ، والمكسور من هذا منون وغير منون على أنه اسم غير متمكن ، نحو أمس وما أشبهه ، والمفتوح بغير تنوين كذلك . وقال بعض أهل العربية : كل هذه الحركات الست تدخل في " أف " حكاية تشبه بالاسم مرة وبالصوت أخرى . قال : وأكثر ما تكسر الأصوات بالتنوين إذا كانت على حرفين مثل صه ومه وبخ ، وإذا كانت على ثلاثة أحرف شبهت بالأدوات " أف " مثل : ليت ومد ، وأف مثل مد يشبه بالأدوات . وإذا قال أف مثل صه . وقالوا : هعت مض [ ص: 417 ] يا هذا ومض . وحكي عن الكسائي أنه قال : سمعت " ما علمك أهلك إلا مض ومض " ، وهذا كإف وأف . ومن قال : " أفا " جعله مثل سحقا وبعدا .

والذي هو أولى بالصحة عندي في قراءة ذلك ، قراءة من قرأه ( فلا تقل لهما أف ) بكسر الفاء بغير تنوين لعلتين : إحداهما : أنها أشهر اللغات فيها وأفصحها عند العرب; والثانية : أن حظ كل ما لم يكن له معرب من الكلام السكون; فلما كان ذلك كذلك . وكانت الفاء في أف حظها الوقوف ، ثم لم يكن إلى ذلك سبيل لاجتماع الساكنين فيه ، وكان حكم الساكن إذا حرك أن يحرك إلى الكسر حركت إلى الكسر ، كما قيل : مد وشد ورد الباب .

وقوله ( ولا تنهرهما ) يقول جل ثناؤه : ولا تزجرهما .

كما حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا واصل الرقاشي ، عن عطاء بن أبي رباح ، في قوله ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) قال : لا تنفض يدك على والديك ، يقال منه : نهره ينهره نهرا ، وانتهره ينتهره انتهارا .

وأما قوله ( وقل لهما قولا كريما ) فإنه يقول جل ثناؤه : وقل لهما قولا جميلا حسنا .

كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ( وقل لهما قولا كريما ) قال : أحسن ما تجد من القول .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب ( قولا كريما ) قالا : لا تمتنع من شيء يريدانه .

قال أبو جعفر : وهذا الحديث خطأ ، أعني حديث هشام بن عروة ، إنما هو عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، ليس فيه عمر ، حدث عن ابن علية وغيره ، عن عبد الله بن المختار .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وقل لهما قولا كريما ) : أي قولا لينا سهلا . [ ص: 418 ]

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حرملة بن عمران ، عن أبي الهداج التجيبي ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : كل ما ذكر الله عز وجل في القرآن من بر الوالدين ، فقد عرفته ، إلا قوله ( وقل لهما قولا كريما ) ما هذا القول الكريم؟ فقال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظ .

التالي السابق


الخدمات العلمية