صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( 37 ) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( 38 ) )

يقول تعالى ذكره : ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا ( إنك لن تخرق الأرض ) يقول : إنك لن تقطع الأرض باختيالك ، كما قال رؤبة :


وقاتم الأعماق خاوي المخترق

[ ص: 450 ]

يعني بالمخترق : المقطع ( ولن تبلغ الجبال طولا ) بفخرك وكبرك ، وإنما هذا نهي من الله عباده عن الكبر والفخر والخيلاء ، وتقدم منه إليهم فيه معرفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) يعني بكبرك ومرحك .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ولا تمش في الأرض مرحا ) قال : لا تمش في الأرض فخرا وكبرا ، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال ، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ( ولا تمش في الأرض ) قال : لا تفخر .

وقيل : لا تمش مرحا ، ولم يقل مرحا ، لأنه لم يرد بالكلام : لا تكن مرحا ، فيجعله من نعت الماشي ، وإنما أريد لا تمرح في الأرض مرحا ، ففسر المعنى المراد من قوله : ولا تمش ، كما قال الراجز :


يعجبه السخون والعصيد     والتمر حبا ما له مزيد



فقال : حبا ، لأن في قوله : يعجبه ، معنى يحب ، فأخرج قوله : حبا ، من معناه دون لفظه .

وقوله ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ) فإن القراء اختلفت [ ص: 451 ] فيه ، فقرأه بعض قراء المدينة وعامة قراء الكوفة ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ) على الإضافة بمعنى : كل هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التي عددنا من مبتدأ قولنا ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) . . . . إلى قولنا ( ولا تمش في الأرض مرحا ) ( كان سيئه ) يقول :

سيء ما عددنا عليك عند ربك مكروها .

وقال قارئو هذه القراءة : إنما قيل ( كل ذلك كان سيئه ) بالإضافة ، لأن فيما عددنا من قوله ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) أمورا ، هي أمر بالجميل ، كقوله ( وبالوالدين إحسانا ) وقوله ( وآت ذا القربى حقه ) وما أشبه ذلك ، قالوا : فليس كل ما فيه نهيا عن سيئة ، بل فيه نهي عن سيئة ، وأمر بحسنات ، فلذلك قرأنا ( سيئه ) ، وقرأ عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( كل ذلك كان سيئة ) وقالوا : إنما عنى بذلك : كل ما عددنا من قولنا ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) ولم يدخل فيه ما قبل ذلك . قالوا : وكل ما عددنا من ذلك الموضع إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه ، فالصواب قراءته بالتنوين . ومن قرأ هذه القراءة ، فإنه ينبغي أن يكون من نيته أن يكون المكروه مقدما على السيئة ، وأن يكون معنى الكلام عنده : كل ذلك كان مكروها سيئة; لأنه إن جعل قوله : مكروها نعد السيئة من نعت السيئة ، لزمه أن تكون القراءة : كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة ، وذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين .

وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ ( كل ذلك كان سيئه ) على إضافة السيئ إلى الهاء ، بمعنى : كل ذلك الذي عددنا من ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ( كان سيئه ) لأن في ذلك أمورا منهيا عنها ، وأمورا مأمورا بها ، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الموضع دون قوله ( ولا تقتلوا أولادكم ) إنما هو عطف على ما تقدم من قوله ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) فإذا كان ذلك كذلك ، فقراءته بإضافة السيء إلى الهاء أولى وأحق من قراءته " سيئة " بالتنوين ، بمعنى السيئة الواحدة .

فتأويل الكلام إذن : كل هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التي عددناها عليك كان سيئة مكروها عند ربك يا محمد ، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه ، فاتق مواقعته والعمل به .

التالي السابق


الخدمات العلمية