صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( 79 ) )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن الليل فاسهر بعد نومة يا محمد بالقرآن ، نافلة لك خالصة دون أمتك . والتهجد : التيقظ والسهر بعد نومة من الليل . وأما الهجود نفسه : فالنوم ، كما قال الشاعر :


ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود



وقال الحطيئة


ألا طرقت هند الهنود وصحبتي     بحوران حوران الجنود هجود



وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن مجاهد بن يزيد ، عن أبي هلال ، عن الأعرج أنه قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن رجل من الأنصار ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فقال : لأنظرن كيف يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فنام رسول الله صلى الله عليه [ ص: 524 ] وسلم ، ثم استيقظ ، فرفع رأسه إلى السماء ، فتلا أربع آيات من آخر سورة آل عمران ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ) حتى مر بالأربع ، ثم أهوى إلى القربة ، فأخذ سواكا فاستن به ، ثم توضأ ، ثم صلى ، ثم نام ، ثم استيقظ فصنع كصنعه أول مرة ، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن ، قالا ثنا سعيد ، عن أبي إسحاق ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن علقمة والأسود أنهما قالا : التهجد بعد نومة .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، قال : التهجد : بعد نومة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : ثني أبو إسحاق ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن علقمة والأسود ، بمثله .

حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : التهجد : بعد النوم .

حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا يزيد ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : التهجد : ما كان بعد العشاء الآخرة .

حدثت عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، عن كثير بن العباس ، عن الحجاج بن عمرو ، قال : إنما التهجد بعد رقدة .

وأما قوله ( نافلة لك ) فإنه يقول : نفلا لك عن فرائضك التي فرضتها عليك .

واختلف في المعنى الذي من أجله خص بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع كون صلاة كل مصل بعد هجوده ، إذا كان قبل هجوده قد كان أدى فرائضه نافلة نفلا إذ كانت غير واجبة عليه ، فقال بعضهم : معنى خصوصه بذلك : هو أنها كانت فريضة عليه ، وهي لغيره تطوع ، وقيل له : أقمها نافلة لك : أي فضلا لك من الفرائض التي فرضتها عليك عما فرضت على غيرك . [ ص: 525 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) يعني بالنافلة أنها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، أمر بقيام الليل وكتب عليه .

وقال آخرون : بل قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن فعله ذلك يكفر عنه شيئا من الذنوب ، لأن الله تعالى كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكان له نافلة فضل ، فأما غيره فهو له كفارة ، وليس هو له نافلة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فما عمل من عمل سوى المكتوبة ، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب ، فهي نوافل وزيادة ، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها ، فليست للناس نوافل .

وأولى القولين بالصواب في ذلك ، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل ، دون سائر أمته ، فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك ، فقول لا معنى له ، لأن رسول الله فيما ذكر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عز وجل عليه ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) وذلك أن هذه السورة أنزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية ، وأنزل عليه ( إذا جاء نصر الله والفتح ) عام قبض . وقيل له فيها ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) فكان يعد له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مائة مرة ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك ، فبين إذن وجه فساد ما قاله مجاهد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ، عن شمر عن عطية ، عن شهر ، عن أبي أمامة ، قال : إنما كانت النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 526 ]

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( نافلة لك ) قال : تطوعا وفضيلة لك .

وقوله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) وعسى من الله واجبة ، وإنما وجه قول أهل العلم : عسى من الله واجبة ، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور ، ولا شك أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه ، إذا هو تعاهده ولزمه ، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه ، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه ، فإنه لصاحبه غار بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير جائز أن يكون جل ثناؤه من صفته الغرور لعباده صح ووجب أن كل ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته ، أو على فعل من الأفعال ، أو أمر أو نهي أمرهم به ، أو نهاهم عنه ، فإنه موف لهم به ، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها ، قالوا : عسى ولعل من الله واجبة .

وتأويل الكلام : أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها ، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك ، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده ، وتغبط فيه .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود ، فقال أكثر أهل العلم : ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، قال : يجمع الناس في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه ، ينادى : يا محمد ، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت ، عبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب هذا البيت ; فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى . [ ص: 527 ]

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، قال : يجمع الناس في صعيد واحد . فلا تكلم نفس ، فأول ما يدعو محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقوم محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : لبيك ، ثم ذكر مثله .

حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد الرقي ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : المقام المحمود : مقام الشفاعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : ثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله في قصة ذكرها ، قال : ثم يؤمر بالصراط فيضرب على جسر جهنم ، فيمر الناس بقدر أعمالهم ; يمر أولهم كالبرق ، وكمر الريح ، وكمر الطير ، وكأسرع البهائم ، ثم كذلك حتى يمر الرجل سعيا ، ثم مشيا ، حتى يجيء آخرهم يتلبط على بطنه ، فيقول : رب لما أبطأت بي ، فيقول : إني لم أبطأ بك ، إنما أبطأ بك عملك ، قال : ثم يأذن الله في الشفاعة ، فيكون أول شافع يوم القيامة جبرائيل عليه السلام ، روح القدس ، ثم إبراهيم خليل الرحمن ، ثم موسى ، أو عيسى قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما قال ، قال : ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعا ، فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه ، وهو المقام المحمود الذي ذكر الله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله تعالى ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : المقام المحمود : مقام الشفاعة يوم القيامة .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ( مقاما محمودا ) قال : شفاعة محمد يوم القيامة .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 528 ]

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : هو الشفاعة ، يشفعه الله في أمته ، فهو المقام المحمود .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) وقد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيا عبدا ، أو ملكا نبيا ، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام : أن تواضع ، فاختار نبي الله أن يكون عبدا نبيا ، فأعطي به نبي الله ثنتين : أنه أول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع . وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله تبارك وتعالى ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) شفاعة يوم القيامة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( مقاما محمودا ) قال : هي الشفاعة ، يشفعه الله في أمته .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر والثوري ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، قال : سمعت حذيفة يقول في قوله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : يجمع الله الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي ، فينفذهم البصر حفاة عراة ، كما خلقوا سكوتا لا تكلم نفس إلا بإذنه ، قال : فينادى محمد ، فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، ولك وإليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت ، قال : فذلك المقام المحمود الذي ذكر الله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، قال حذيفة : يجمع الله الناس في صعيد واحد ، حيث ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، حفاة عراة كما خلقوا أول مرة ، ثم يقوم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : " لبيك وسعديك " ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : هو المقام المحمود . [ ص: 529 ]

وقال آخرون : بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيه أن يبعثه إياه ، هو أن يقاعده معه على عرشه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : يجلسه معه على عرشه .

وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صح به الخبر عن رسول الله .

وذلك ما حدثنا به أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن داود بن يزيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) سئل عنها ، قال : " هي الشفاعة " .

حدثنا علي بن حرب ، قال : ثنا مكي بن إبراهيم ، قال : ثنا داود بن يزيد الأودي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " .

حدثنا أبو عتبة الحمصي أحمد بن الفرج ، قال : ثنا بقية بن الوليد ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وأمتي على تل فيكسوني ربي حلة خضراء ، ثم يؤذن لي ، فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذاك المقام المحمود " .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا شعيب بن الليث ، قال : ثني الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام ، فيقول لست صاحب ذلك ثم بموسى عليه السلام ، فيقول كذلك ، ثم بمحمد فيشفع بين الخلق حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا " . [ ص: 530 ]

حدثني أبو زيد عمر بن شبة ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا سعيد بن زيد ، عن علي بن الحكم ، قال : ثني عثمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود وعلقمة ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأقوم المقام المحمود " فقال رجل : يا رسول الله ، وما ذلك المقام المحمود ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام ، فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ، ثم يقعد مستقبل العرش ، ثم أوتى بكسوتي فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه غيري يغبطني فيه الأولون والآخرون ، ثم يفتح نهر من الكوثر إلى الحوض " .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأكون أول من يدعى وجبرائيل عن يمين الرحمن ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ، فيقول الله عز وجل : صدق ، ثم أشفع ، قال : فهو المقام المحمود " .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، قال : قال النبي : " إذا كان يوم القيامة " ، فذكر نحوه ، وزاد فيه : " ثم أشفع فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض ، وهو المقام المحمود " .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا إبراهيم بن طهمان ، عن آدم ، عن علي ، قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الناس يحشرون يوم القيامة ، فيجيء مع كل نبي أمته ، ثم يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمم هو وأمته ، فيرقى هو وأمته على كوم فوق الناس ، فيقول : يا فلان اشفع ، ويا فلان اشفع ، ويا فلان اشفع ، فما زال يردها بعضهم على بعض يرجع ذلك إليه ، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه . [ ص: 531 ]

حدثنا محمد بن عوف ، قال : ثنا حيوة وربيع ، قالا ثنا محمد بن حرب ، عن الزبيدي ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ، فيكسوني ربي عز وجل حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذاك المقام المحمود " .

وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، قول غير مدفوع صحته ، لا من جهة خبر ولا نظر ، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن التابعين بإحالة ذلك . فأما من جهة النظر ، فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة : فقالت فرقة منهم : الله عز وجل بائن من خلقه كان قبل خلقه الأشياء ، ثم خلق الأشياء فلم يماسها ، وهو كما لم يزل ، غير أن الأشياء التي خلقها ، إذ لم يكن هو لها مماسا ، وجب أن يكون لها مباينا ، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماس للأجسام أو مباين لها . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله عز وجل فاعل الأشياء ، ولم يجز في قولهم : إنه يوصف بأنه مماس للأشياء ، وجب بزعمهم أنه لها مباين ، فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، أو على الأرض إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه ، وبينونته من أرضه بمعنى واحد في أنه بائن منهما كليهما ، غير مماس لواحد منهما .

وقالت فرقة أخرى : كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ، ولا شيء يباينه ، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته ، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، أو على أرضه ، إذ كان سواء على قولهم عرشه وأرضه في أنه لا مماس ولا مباين لهذا ، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه .

وقالت فرقة أخرى : كان الله عز ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء ولا شيء يماسه ، [ ص: 532 ] ولا شيء يباينه ، ثم أحدث الأشياء وخلقها ، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا ، وصار له مماسا ، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ، ولا شيء يحرمه ذلك ، ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا ، وأعطى هذا ، ومنع هذا ، قالوا : فكذلك كان قبل خلقه الأشياء يماسه ولا يباينه ، وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه ، فهو مماس ما شاء من خلقه ، ومباين ما شاء منه ، فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه ، أو أقعده على منبر من نور ، إذ كان من قولهم : إن جلوس الرب على عرشه ، ليس بجلوس يشغل جميع العرش ، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية ، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه ، كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبية ، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مباين ، كما أن الله عز وجل موصوف على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها ، هو مباين له . قالوا : فإذا كان معنى مباين ومباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودة والدخول في معنى الربوبية ، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن ، فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه .

فإن قال قائل : فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه ، وإنما ننكر إقعاده .

حدثني عباس بن عبد العظيم ، قال : ثنا يحيى بن كثير ، عن الجريري ، عن سيف السدوسي ، عن عبد الله بن سلام ، قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسي الرب بين يدي الرب تبارك وتعالى ، وإنما ينكر إقعاده إياه معه ، قيل : أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه . فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه ، أو إلى أنه يقعده ، والله للعرش مباين ، أو لا مماس ولا مباين ، وبأي ذلك قال كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره وإن قال : ذلك [ ص: 533 ] غير جائز ؛ كان منه خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم ، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام ، إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها ، وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية